
"اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ".
"وَاللّهِ، إنَّ المَوتَ أحَبُّ إلَینا مِنَ الحَياةِ مَعَكُم".
هذا ما أجاب به الصحابي الجليل، والبطل الضرغام البصير، بُرَيرُ بن خُضير، شمر بن ذي الجوشن اللَّئيم اللَّعين الزَّنيم، الذي أقبل في النصف من ليلة العاشر من محرَّم الحرام ومعه جماعة من أصحابه حتى تقارب من عسكر
الامام الحسين (ع)، والحسين قد رفع صوته وهو يتلو قوله تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿آل عمران: 178﴾.
إقرأ أيضاً:
فصاح لعين من أصحاب شمر بن ذي الجوشن: نحن وربِّ الكعبة الطيِّبون، وأنتم الخبيثون، وقد مُيِّزنا منكم.
فقطع بُرَير بن خُضَير الصلاة، فناداه: يا فاسِق، يا فاجِر، يا عدوَّ اللهِ، أَمِثلُك يكون من الطيِّبينَ؟ ما أنت إلا بهيمةٌ ولا تَعقِل، فأبشر بالنار يوم القيامة والعذاب الأليم.
فصاح به شمر بن ذي الجوشن، وقال: أيَّها المتكلِّم، إن الله تبارك وتعالى قاتِلُك وقاتل صاحبك (يعني الحسين) عن قريب.
فقال له بُرَيْرٌ: يا عدوَّ الله! أبالموت تخوِّفُني، واللهِ، إن الموت أحبُّ إلَينا من الحياة معكم! واللهِ، لا ينال شفاعة محمد (ص) قومٌ أراقوا دماء ذرِّيته وأهلِ بيته.
في هذا النصِّ تستوقفنا الأمور التالية:
أولاً: لقد قرأ الإمام الحسين (ع) قوله تعالى: "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" على مسمع شمر بن ذي الجوشن وجماعته حين علم بدنوِّهم منه، ليبعث إليهم برسالة مفادها: أن ما أنتم عازمون عليه من قتلنا امتثالاً لإرادة الحزب الأموي وتقرُّباً إليه، قد تحسبونه خيراً لكم وانتصاراً للوهلة الأولى، ولكنه في حقيقة الأمر إملاء من الله لهم ولكم، لتزدادوا طغياناً وتجبُّراً وظُلماً، فإن ذلك شرط ضروري للسقوط والاضمحلال والزوال، واستدراج لكم إلى أسوأ العواقب وأشدّها وخامة، وهذه هي سُنَّة الله وقانونه في التعامل مع الطغاة المجرمين، إنه تعالى يدع الطغاة المفسدين يُمعِنون في طغيانهم وظلمهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم! وهذا كله وَهمٌ باطل، والأمر ليس كذلك، إنه إذا كان الله لا يأخذهم بظلمهم وطغيانهم، وإذا كان يعطيهم بعض الغَلَبة فإنما هي إلى حين، وإذا كان الله لا يقصم ظهرهم في الحين فإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج إلى حيث يريد الله لهم.
ثانياً: إن الطُّغاة ليحسبون أنهم على الحق، بما أوتوا من قوَّة واقتدار في الإمكانيات، ويحسبون أن المظلومين على الباطل بما هم عليه من قلة في العدد وافتقار إلى العُدَّة، أو قد يروِّجون ذلك كوسيلة من وسائل الحرب بينهم وبين المستضعفين، وقد تنطلي تلك الشبهة على الجاهلين الأغبياء، ولكن أهل الوعي والبصيرة لا يقيسون الحق بعدد الرجال، ولا بما يملكون من عتاد وقوة مالية أو اقتصادية أو عسكرية، فالحق وحده هو المقياس الذي يقيسون الناس عليه.
ثالثاً: إن الصراع بين الحق والباطل هو الغربال الذي يغربل الناس، فيُمَيِّز المُحِقَّ من المُبطِل، والمعتدي من المعتدى عليه، والظالم من المظلوم، والصادق من الكاذب، أما في حال الرخاء والدَّعة والسلم فلا يمتاز هؤلاء عن أولئك.
رابعاً: إن الأسلوب الأهم الذي يعتمده الطغاة في صراعهم مع المظلومين هو التهديد بالقتل، والتدمير، والتجويع، والحصار المالي والاقتصادي والسياسي، لكن هذا الأسلوب لا ينفع إلا مع محبي (الحياة) ولو كانت بِذُلٍ، ولو كانت على حساب كرامتهم وحريتهم، واستقلالية قرارهم، ينفع مع الذين يعيشون الحياة كالأنعام همّها أن تأكل وتشرب وتستمتع بالملذات الفانية، لاهية عمّا يريده لها الظالمون.
فأما طُلّاب الحياة الحقيقية، الحياة العزيزة في الدنيا والأبدية في الآخرة، أما أهل الوعي والبصيرة، والكرامة والشهامة، الذين يؤمنون أن الكرامة أهم من الطعام والشراب، وأن الاستقلال أم من الخنوع والمَهانة فهؤلاء لا يُخَوَّفون بالموت، كيف، والموت في فهمهم ارتقاء من عالم أدنى إلى عالم أعلى، ومن عالم ضيِّق إلى عالم رحيب فسيح، ومن دنيا مليئة بالجور والظلم والطغيان والهموم والغموم، إلى عالم حياة مليئة بالرحمة والرأفة، خالية من الطغاة والظالمين.
إن الحياة مع الظالمين، والعيش في كنفهم، والتسليم لهم والخضوع لإرادتهم هي الموت الحقيقي، وهي العذاب الذي ليس فوقه عذاب.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي