
وأشار إلى ذلك، الباحث الديني الايراني "رضا ملازاده يامجي" في مقال نشره عبر وكالة "إكنا" للأنباء القرآنية الدولية حول تاريخ التشيع، ودور
علماء الشيعة في نشر المعارف الدينية وجهاد العلماء الثقافي والعلمي، الذين أبقوا شعلة المعرفة متقدة وسط عواصف الأحداث.
وكتب: "رسالة علماء الشيعة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم استمراراً للمسار العلمي
للأئمة الأطهار (ع)، اتخذت عبر التاريخ وبما يتناسب مع الظروف وجوهاً متعددة" مستعرضاً ثلاث نماذج بارزة من مدرستين تاريخيتين مهمتين.
أولاً: العلماء الذين كانوا يعتبرون "العلم" معيار الفضل والشرط الأساسي لخشية الله تعالى وذلك استناداً إلى قوله تعالى "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ..." (سورة فاطر/ ۲۸).
ثانياً: مؤسسي النظام الفكري للشيعة، حيث في القرن الرابع والخامس الهجري، كانت بغداد مركز الحضارة الإسلامية ومكان التقاء الآراء والمذاهب المختلفة، وكان المذهب الشيعي بحاجة إلى إطار فكري متماسك وعقلاني ومدوّن من أجل البقاء والنمو، وقد أنجز هذه المهمة التاريخية كبار العلماء مثل الشيخ "المفيد" وتلميذه "السيد مرتضى علم الهدى".
إن الشيخ المفيد يجب اعتباره "مؤسس علم الكلام العقلاني الشيعي". في عصر كان فيه المذهب الأخباري (الاعتماد الكلي على ظاهر الروايات) ينتشر، دافع الشيخ المفيد بشجاعة عن مكانة "العقل" إلى جانب القرآن والسنة من خلال تأليف أعمال مثل "أوائل المقالات"، حيث حدّد الحدود العقائدية الدقيقة للشيعة في مواجهة الفرق الأخرى، ومن خلال عقد جلسات المناظرة، دافع عقلياً عن هذا المذهب. لقد منح التشيع "لغة استدلالية".
وتولى السيد مرتضى علم الهدى بعد أستاذه الزعامة العلمية للشيعة، وكان شخصية جامعة الأطراف وأحد أعظم عباقرة تاريخ الإسلام. ارتقى السيد مرتضى بعلم "أصول الفقه" في المذهب الشيعي إلى ذروة الكمال والنضج من خلال تأليفه لكتابه القيم "الذريعة إلى أصول الشريعة". هذا العلم هو في الواقع "منطق الاستنباط" من النصوص الدينية، ويسمح للفقيه باستخراج الأحكام بطريقة منهجية ومنضبطة. وبهذا العمل، جهز السيد مرتضى التشيع بـ "نظام قانوني ومعرفي" متماسك ومستجيب.
ثالثاً: مدرسة أصفهان التي نشرت الثقافة الشيعية، أي بعد حوالي سبعة قرون في عهد الصفويين، كانت الأوضاع مختلفة تماماً، فقد أصبح التشيع المذهب الرسمي لإيران، ولم يكن التحدي الرئيسي بعد ذلك هو المناظرات العلمية مع الفرق الأخرى، بل كان "التعليم العام" ونشر الثقافة الشيعية بين عامة الناس، وهنا برزت شخصية العلامة "محمد باقر المجلسي" (توفي ١١١٠ هـ)."
أدّى كبار علماء الشيعة، بفهمهم العميق لظروف الزمان والمكان، أدواراً مختلفة في نشر الثقافة الإسلامية. في الفترة التي كانت فيها هوية التشيع في خطر، قام عظماء مثل الشيخ المفيد والسيد مرتضى في "مدرسة بغداد"، بنهج عقلاني ومنهجي، بحماية وتدوين المبادئ الفكرية لهذه المدرسة وتأمينها ضد الموجات الفكرية المعارضة. بعد قرون، في الفترة التي كانت فيها الحاجة إلى التعليم العام وتعميق المعتقدات الشعبية، قام شخصية مثل العلامة المجلسي في مدرسة أصفهان، بجهد لا مثيل له بـجمع ونشر هذه الثقافة على نطاق واسع بين عامة المجتمع.
هذان النهجان، وإن كانا مختلفين في الظاهر، إلا أنهما كانا متطابقين في الهدف: حفظ ونشر رسالة القرآن وأهل البيت (ع). يعلمنا هذا الإرث الثمين أن التدين الحقيقي يتطلب بصيرة وفهماً لاحتياجات العصر. العلماء الحقيقيون هم أولئك الذين، كالأطباء المهرة، يمسكون بنبض مجتمعهم ويصفون أفضل علاج يتناسب مع الداء. هذه السنة المجيدة تقع اليوم أيضًا على عاتق العلماء الملتزمين ليُلهموا من هؤلاء العظماء، ويستجيبوا للتحديات الفكرية والثقافية للعالم المعاصر.
4307482