ایکنا

IQNA

بيان شبهات حول طبيعة العلاقة بين النص القرآني ونص الترجمة

9:40 - December 07, 2020
رمز الخبر: 3479279
الرباط ـ إکنا: يمكن أن نقول إن ترجمة القرآن لا يمكن أن تكون إلا تفسيرية بالضرورة؛ لاعتمادها على التفاسير بشكل أو بآخر، ويصير مصطلح "الترجمة التفسيرية" مجرد حشو؛ لأن الزيادة في المبنى لا تفيد أي زيادة في المعنى، أو تمييز عن نوع آخر ممكن من الترجمة.

وفي سياق متابعة المستجدات في موضوع تخصصي الأكاديمي حول ترجمة القرآن الكريم، وكذا إغناء مضامين الموقع الإلكتروني، الذي قمت بإنشائه لجمع المادة العلمية حول الموضوع، وجدت حلقة من البرنامج الفكري المعروف "ذكرى وعبرة" للأستاذ فاضل سليمان بعنوان "لماذا نحتاج إلى ترجمة جديدة للقرآن الكريم؟"

كما جاء في العنوان، تتحدث الحلقة عن ضرورة إعداد ترجمة جديدة للقرآن الكريم، ذات منحى "تدبري"، وتعداد مزاياها والإضافة التي تمثلها بالنسبة للمسلمين غير الناطقين بالعربية.

غير أنه، وفي إطار بسطه لقضية ترجمة القرآن الكريم، قال إن الترجمة ليست قرآناً.

مع أننا نتفق تماماً مع ظاهر العبارة، فهي تحيل على الأساس الفلسفي لترجمة القرآن الكريم، الذي سميناه "النظرية التأصيلية"، والتي بسطت في كتابنا "معالم نظرية تأصيلية لترجمة القرآن الكريم" (دار بلال للنشر، 2020)، غير أن ثمة جانباً نظرياً ربما لم يستوف حقه من النقاش، ووجب إضافته إلى النظرية نظراً لبعض ردود الفعل غير المرغوبة لظاهر العبارة: إن لم تكن الترجمة قرآناً، فما طبيعتها؟ وما حدود فائدتها واستخدامها من قبل المتلقي المفترض؟؛ بل ما طبيعة العلاقة بين النص القرآني والترجمة؟.

والداعي إلى ذلك أن السيد سليمان قال إنه لاحظ إعراض بعض الأشخاص غير الناطقين باللغة العربية عن الترجمة؛ لكونها ليست قرآناً، أي إنها ليست النص المعجز باللغة العربية؛ بل إنهم يفضلون الاكتفاء بالنص العربي اعتماداً على معرفة بسيطة باللغة العربية (قالت السيدة التي ذكر شهادتها بالحرف إنها لا تتجاوز صف الحروف واحدا تلو الآخر) بدون أدنى فهم لما تقرأ؛ بل إن العملية لا تعدو كونها صالحة فقط للاستخدام على سبيل "التبرك".

ويمكن أن نذكر أيضاً أن هذه العبارة لطالما كانت مستند بعض الباحثين للاعتراض على ترجمة القرآن الكريم، والدعوة إلى ترجمة التفاسير، أو تفضيل عبارة "ترجمة معاني القرآن الكريم"، أو عبارات مشابهة كعناوين للترجمات في محاولة للتأكيد على تصور معين لهذه العلاقة، وقد تطرقنا لموضوع العناوين في مقال سابق لنا على موقع صحيفة "هسبريس" (Hespress) الإلكترونية.

وعليه، نعتقد أنه صار لزاماً سد هذه الثغرة النظرية، وبيان هذه النقطة تفادياً لأي فهم غير مرغوب من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة الإمكانات والآفاق، التي يمكن للنظرية أن تتيحها عبر ترجمة القرآن الكريم للتعريف برسالة الإسلام، وتوسيع آفاق الاتصال بكلام الله تعالى، في ظل مراعاة الثوابت الإسلامية بهذا الصدد.

لنبدأ من العبارة نفسها: ترجمة القرآن الكريم ليست قرآناً، تعني أنه لا يمكن للترجمة، من وجهة النظر الإسلامية طبعاً، أن يكون لها حكم القرآن الكريم عند المسلمين، سواء من حيث المصدر الإلهي المطلق الكامل العلم والقدرة، الذي لا يمكن بالمنطق البدهي البسيط أن يأتي به إنسان قاصر محدود العلم والقدرة، علاوة على كون الترجمة لا يمكن أن تستخدم للأغراض التشريعية والتعبدية والاستشفائية وغيرها.

وماذا يتبقى للترجمة إذن؟

لو أردنا أن نتحدث بآليات دراسات الترجمة، فيتبقى للترجمة فقط قيمة دلالية وتداولية؛ أي إنها مجرد تقريب من "بعض" ما في القرآن الكريم من معان لا متناهية، فهي لا تعدو أن تكون "تفسيراً" للقرآن الكريم بلغة أخرى غير العربية.

لكن ما تم تفصيله في الأسطر السابقة، بخصوص عبارة أن الترجمة ليست قرآناً، لا ينبغي أن يفهم وكأنه تقليل من شأنها، فلها ضرورة التفاسير والتأمل والتدبر بالنسبة لمتلقي القرآن الكريم باللغة العربية، فهي تساعده على فهم كلام الله تعالى؛ مما يساعده على تدبره، وتتبع الشبكة المفاهيمية للهدي القرآني.

وعليه، فترجمة القرآن الكريم، في إطار الفرق بين المطلق والنسبي وحدود العقل البشري، أقرب ما يكون إلى كتاب الله تعالى، وتكمن ميزتها أساساً في الجانب الدلالي والتداولي. وهذا يصب مباشرة في موضوع الحلقة التي كانت تتحدث عن ضرورة تبني مقاربة تدبرية، فالتدبر ذو طبيعة دلالية تداولية؛ أي إنها تواصلية ومعرفية بامتياز. وبالتالي، فإن أي استهانة بقيمة الترجمة، كما يمكن أن يوحي هذا الجانب تعني التخلي عن هذه الوسيلة، التي تمكن من تبليغ "بعض" دلالات القرآن ومعانيه اللامتناهية، والتي تكاد تكون الوسيلة الوحيدة للاتصال بالنص القرآني دلالياً وتداولياً عند غير الناطقين أو غير المتقنين للغة العربية.

ولربما يفسر ذلك الاهتمام الكبير للمسلمين الجدد من غير الناطقين باللغة العربية بقضية ترجمة القرآن الكريم والوعي بضرورة النهوض بها وترشيدها، من قبيل محمد أسد أو مراد هوفمان أو أماندا فيغيراس أو محمد عيسى غارسيا؛ بل إن أغلب الترجمات التي قام بها مسلمون في العقود الأخير تمت في بلدان غربية تبعا لنمو أعداد المسلمين المقيمين فيها، ومن أسلموا من أبناء البلد، وقد صارت الأجيال الجديدة منهم لا تملك المعرفة الكافية باللغة العربية للاطلاع على كتاب الله.

إذن، فالتبعيض ليس حكم قيمة؛ بل حكماً وصفياً نابعاً من العلاقة بين النص القرآني الشامل والفهم الإنساني القاصر والمحدود، ولا فرق في ذلك في الفهم والتفسير باللغة العربية أو الترجمة إلى لغات أخرى، ولا نظن أحدا يدعي أن متلقي النص العربي يعلم يقينا مراد الله من كلام الله؛ بل يقارب ويسدد ويستخدم في ذلك كل الوسائل المعرفية المتاحة، تماماً كما يفعل المترجم في سياق الوساطة بين اللغات بآلياتها وإكراهاتها الخاصة.

ومن جهة أخرى، يجدر بنا أن نعرج على طبيعة العلاقة بين التفسير والترجمة في الحالة القرآنية، والتي يمكن وصفها بالعلاقة العضوية. فالمترجمون يعتمدون في تعاملهم مع النص القرآني من حيث الدلالة أساساً عبر التفاسير المتوفرة، علاوة على مراجع تكميلية من معاجم وموسوعات وكتب الديانات السماوية على سبيل المقارنة، سواء على المستوى الاصطلاحي أو التركيبي أو البلاغي، وبعد ذلك يتم التعامل على مستوى النقل إلى اللغة الهدف على الترجمات السابقة باللغة نفسها أو لغات أخرى، والمعاجم مزدوجة اللغة وغيرها.

وعليه، يمكن أن نقول إن ترجمة القرآن الكريم لا يمكن أن تكون إلا تفسيرية بالضرورة؛ لاعتمادها على التفاسير بشكل أو بآخر، ويصير مصطلح "الترجمة التفسيرية" مجرد حشو؛ لأن الزيادة في المبنى لا تفيد أي زيادة في المعنى، أو تمييز عن نوع آخر ممكن من الترجمة. وبالتالي نعتبر أن من يذهب إلى ترجمة التفاسير، سيدخل في باب التكرار وهدر الوقت والمال.

ويبقى بيت القصيد هنا هو التأكيد على أهمية وضرورة الترجمة تنظيرا وتنفيذا بالنسبة للقرآن الكريم والتعريف برسالته العالمية لكل الناس على اختلاف ألسنتهم أداء لواجب البلاغ للعالمين. فهي تمكن الملايين من الناس من التقرب من كتاب الله تعالى في كل أنحاء العالم ولو بطريقة نسبية، وتشكل حلاً عملياً، ولو مؤقتاً، للتقرب من كتاب الله والاطلاع على رسالة الإسلام حتى أن كثيراً ممن هداهم الله إلى الإسلام (أذكر هنا مثالا حيا عن إسلام الأستاذ والمفكر جيفري لانغ، انظر الرابط: https://youtu.be/FaOlc7ykli0) بعد قراءة آيات من القرآن الكريم مترجماً.

وفي المحصلة، فإن كون ترجمة القرآن الكريم ليست قرآناً لا يفهم منه أي ازدراء لقيمتها؛ بل هي من الناحية التوصيفية تنزيه لكلام الله تعالى عن أن يضاهيه أو يدرك أبعاده اللامتناهية كلام بشر، عربي اللسان كان أم أعجمياً؛ بل إن الترجمة تعد قناة للتعريف برسالة الإسلام عبر القرآن الكريم بإتاحته بجودة وصرامة علمية لملايين المسلمين وغيرهم عبر العالم ممن لا تسعفهم المعرفة باللغة العربية لتدبر آياته؛ لأن أي فراغ في هذا الباب يمكن أن يفتح أبواباً من الفتنة (كما حصل مع ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة العبرية، والتي أثارت جدلاً واسعاً) بين المسلمين.

وهذا لن يتم إلا بوجود إطار نظري يستند إلى ثوابت هذه العملية من حيث اعتبار العلاقة بين النص القرآني وترجماته كما أوضحنا، أو فيما يتعلق باللغة العربية وضرورة الحفاظ على علاقتها الوطيدة بالوحي، ويفيد من نظريات الترجمة الحديثة في هذا المضمار، سواء من حيث إعداد الترجمات، أو نقد الترجمات الموجودة وفق منهج علمي صارم ومتجدد.

بقلم بوعزى عسام؛ أستاذ الأدب الإسباني والترجمة، كلية الآداب المحمدية، جامعة الحسن الثاني- الدار البيضاء
captcha