ایکنا

IQNA

جاء في ندوة الدراسات القرآنیة الجزائریة؛

الجزائر والقرآن؛ تجسید المفاهیم القرآنیة في القصص الشعبیة

14:28 - May 09, 2022
رمز الخبر: 3485874
طهران ـ إکنا: قال المفسر والباحث الجزائري في الدراسات القرآنیة "الدكتور نور الدین أبولحیة" إنه قد عمل في إصداراته على تقريب المعارف القرآنية لعامة الناس، وخاصة المثقفين منهم، مؤكداً أنه قد اهتمّ بعصرنة القضايا المطروحة، وقام بالرد على الشبهات، سواء تلك التي يثيرها المستشرقون أو الحداثيون أو غيرهم.

ونظمت وکالة الأنباء القرآنیة الدولیة "إکنا" ندوة "الدراسات القرآنیة في الجزائر؛ نظرة على التفاسیر السابقة والحالیة" بطریقة إلکترونیة حیث إستضافت المفسر الجزائري والباحث في الدراسات القرآنیة "الدكتور نور الدین أبولحیة" وزوجته التي ترافقه في أعماله القرآنیة "نورا فرحات" وأیضاً الأكاديمية الجزائرية والباحثة في الدراسات القرآنية "الدكتورة رشا روابح". 

وقال نور الدین أبولحیة لدی شرحه لکتابه "سلسلة التنزیل والتأویل": "إني عملت في الکتاب علی تقریب المفاهیم القرآنیة إلی قلوب الناس وأفکارها وأیضاً تصحیح الشبهات والإشکالیات التي ترافق المفاهیم القرآنیة".

وأضاف أنه عمل کـ المخرج السینمائي من أجل تصویر القرآن الکریم بکل مفاهیمه للقارئ، مبيناً أن کتاباته أتت في إطار سعیه الحثیث من أجل تصویر المفاهیم القرآنیة في قصص وروایات طویلة تحمل في طیاتها الکثیر من البیانات القرآنیة التي تساعد الباحث القرآني.

ووصف عمله في کتاب "التنزیل والتأویل" بالشبیه لما قام به "أبو العلاء المعري" و"جلال الدین الرومي" لدی وصفهما معالم الجنة وعرض صورة مادیة ملموسة من المفاهیم القرآنیة. 

وقال الدكتور نورالدين أبولحیة إنه في کتابه صحّح الکثیر من الشبهات والأخطاء التي وردت في بعض الکتب الصادرة عن القرآن الکریم وأجاب علی بعض التساءلات لدی القارئ والباحث القرآني. 

وأوضح أنه إستخدم الأسلوب الروائی القصصي في کتابه حیث یتناول قضایا عصریة مهمة ضمن حوار روائي. 

وصرّح الباحث والمفسر القرآني الجزائري والعضو في هيئة التدريس بجامعة "باتنة" الجزائرية، "الدكتور نورالدين أبولحية"  أنه تحاول هذه السلسلة المعنونة بـ [التنزيل والتأويل] تقريب المعاني والمعارف القرآنية لعامة الناس، وخاصة المثقفين منهم، ذلك أن أكثرهم لا يستطيع الوصول إلى التفاسير الكبرى مباشرة، بسبب طريقة طرحها التخصصية، ولذلك حاولنا تبسيط تلك المعارف وطرحها بما يتناسب مع أكثر الناس، بالإضافة إلى ربط تلك المعاني بالواقع والمعارف المختلفة، وقد انتهجنا فيها المنهج التالي:

1. تخصيص كل نوع من أنواع المعارف والمواضيع القرآنية بكتاب خاص مستقل عن غيره، ليسهل الوصول إلى المعلومة، وقد بلغت عناوين السلسلة حوالي أربعين عنواناً.

2. صياغة القضايا المطروحة على شكل روايات وأحداث تتضمن حوارات كثيرة، وبين أطراف مختلفة، كلها تدور حول الحقائق القرآنية، والآيات المرتبطة بها.
الجزائر والقرآن؛ تجسید المفاهیم القرآنیة فی القصص الشعبیة
3. الاستعانة بالتفاسير التحليلية أو الموضوعية في طرح المعاني القرآنية مع تبسيطها وتهذيبها وحذف ما لا نراه متناسباً مع المعاني القرآنية، مع توثيق كل ذلك، وقد حاولنا استيعاب أكثر ما ورد من تأويلات مقبولة ومتناسبة مع القرآن الكريم، مهما اختلفت مصادرها.

4. الابتعاد قدر الإمكان عن الجدل الذي حصل في بعض القضايا أو بين أشخاص المفسرين، لأن الهدف هو تحبيب القرآن الكريم لعامة الناس، لا الانشغال بالصراعات الطائفية، إلا ما لا بد من بيانه، وحينها نطرح القضايا كاحتمالات تُناقش، لا كصراع بين جهات مختلفة، لأن هدف السلسلة هو التقريب والوحدة بين المسلمين، ولذلك كانت المصادر شاملة لكل المدارس الإسلامية، لبيان توافقهم في أكثر الفهوم المرتبطة بالقرآن الكريم. 

5. الاهتمام بعصرنة القضايا المطروحة، والرد على الشبهات، سواء تلك التي يثيرها  المستشرقون أو الحداثيون أو غيرهم، واستعمال الحوار وسيلة لذلك.

6. الاستفادة من كل أنواع التأويل، ابتداء من التأويل الأثري، وانتهاء بالتأويل التدبري، مع الاستفادة من المعارف المختلفة سواء تلك المرتبطة بالعلوم الإنسانية أو العلوم الكونية.

7. الاهتمام بالجانب العملي من القرآن الكريم، ومن كل الآيات المدروسة، وقد تكفل بذلك خصوصا الجانب الروائي، الذي يعتمد عادة على وجود صالحين يقوم بالتبشير بالقرآن الكريم، ويعرفون غيرهم بمعانيه وكيفية التعامل معها.

الكاتبة الجزائرية والباحثة في الدراسات القرآنية "نورا فرحات"

وبدورها، قالت الكاتبة الجزائرية والباحثة في الدراسات القرآنية "نورا فرحات": "أنا أحاول أن أبين لكم باختصار هنا مساعدتي مع الأستاذ(الدكتور نورالدين أبولحية) في كتابه هذا "التنزيل والتأويل" أو في كتبه الأخرى، هو يقوم بكتابة الكتاب كعادته، ثم يسلم لي في كل مرة فصل أو فصلين حسب الحال يطلب مني.

أولاً الاهتمام ببعض الأمور. مثل التدقيق اللغوي، يعني إذا كانت هناك أخطاء، خاصة في النصوص المنسوخة، أو وجود أخطاء مثلاً همزة الوصل أو همزة القطع أو إلى غيرها من هذه الأمور التي يركز عليها كثيراً حتى نتجنب الأخطاء الإملائية.. طبعاً هو لديه مشكلة في بصره بحيث يحتاج إلى تدقيق أكثر في الرؤية، وأنا أعثر على هذه الأخطاء وأبين له مواضعها ليقوم هو بعد ذلك بتصحيحها.كما أنه لضيق وقته الذي لا يسمح له بذلك، فهو يجتهد كثيراً من أجل انهاء هذه السلسلة التي يمكن أن نعبر عنها بحلمه المنتظر منذ حوالي كذا سنة والتي تضمن أربعين عنواناً.

والأمر الثاني وهو من عادته دائماً التبسيط، فهو يحاول دائماً أن تكون كتبه مبسطة ميسرة يفهمها عامة الناس فيطلب مني في أي موضع أجد فيه قضية أو نصاً صعباً ولا يفهم بسهولة أن أضع تحته خط أو ألونه، على جهاز الكمبيوتر، حتى يقوم هو بعد ذلك بتبسيطه أو تيسيره يعني ليقرأه ويفهمه عامة الناس.

والأمر الثالث وهو أيضا يهتم به كثيراً وفي كل الكتب، هو يقول لي إذا كان هناك طرح قضية معينة يعني قد تثير إشكالات أو قد يساء فهمها، أو يستحسن عدم ذكرها، فهذه يركز عليها كثيراً، فأيضا أضع عليها علامة، فهو يقوم بعد ذلك إما بحذفها إذا كانت تثير فتنة أو شبهة إلى آخره، أو إذا كانت هناك شبهة مثلاً، يحاول أن يبسطها أكثر أو يبين ما مدى معقوليتها إلى آخره، وبالتالي مشاركتي معه ربما جزء منها آلي وهو القيام بالتصحيح الآلي وتصحيح الأخطاء الإملائية ونحوها.

والثاني هو اعمل فيه جهدي الفكري والعقلي بحيث يصل بالكتاب إلى الناس بسهولة. أحيانا أقترح عليه مثلاً تكون هناك قصة أو حوار أو غير ذلك. مثال بسيط أني قد ذكرت في كتاب القرآن والبيان الشافي قلت له كل الذين يتحدثون ذكور، فلو أدخلت إناثاً أي تنويع الشخصيات، فهو قام بالتصرف أيضا وأدخل في هذا الباب. إذن هذه ربما مجمل مشاركاتي معه في هذا الباب، بالإضافة إلى ذلك حتى الأولاد في البيت أحياناً، هو يحتاج إلى تصميم الغلاف، ويحتاج إلى صورة الغلاف، نبحث في المواقع المرتبطة بالصور ونختار له الصورة المناسبة، أو نختار مجموعة صور وهو يختار من بينها الصورة بحيث يضعها كصورة لغلاف الكتاب، وهو يتشدد في ذلك كثيرا بحيث الصورة لا بد أن تكون لها معايير موافقة للكتابة عليها ومنها ما يدل أو يوحي بما يرمي أليه محتوى الكتاب. ثم يقوم هو بعد ذلك بتصميمها في الفوتوشوب إلى آخره. فكما هو خبير في الكتابة والتأليف، كذلك هو متمكن في كل مايخص الكمبيوتر والاعلام، هذه مجمل عملي للكتاب.

وهو كذلك يستعين بالأولاد في هذا المجال، خاصة ولده الأكبر المتخصص في الإعلام الآلي هناك، حيث يحتاج إلى برمجيات في الوورد مثلا، حيث تسهل عليه العمل في المراجع وغيرها، فيقوم أحيانا بتصميم البرمجيات بحيث ييسر له العمل في هذا الجانب، أو أحياناً يطلب من الاولاد مثلا الأمور التي ترتبط بالتقنية، ونحن جميعاً تقريباً نتعاون، فبعد أن يؤلف ويصيغ الأفكار.. إلى آخره، يستشيرنا في قضايا معينة ما رأيكم فيه كذا؟ ما رأيكم في العنوان الفلاني؟ ما رأيكم في تصميم هذا الغلاف ؟ ما رأيكم في هذا العنوان؟ عنوان الكتاب مثلا؟ إلى آخره. يعني يستشيرنا دائما في هذا الباب.
الجزائر والقرآن؛ تجسید المفاهیم القرآنیة فی القصص الشعبیة
بالنسبة لي فيما يخص كتاب "إيران والقرآن".. هذا الكتاب استفدت منه كثيراً لأنه استطاع أن يبين لنا جهود الإيرانيين في خدمة القرآن الكريم. لم نكن نتصور أنها بتلك الضخامة، وأنها أكثر المراجع والمصادر المختصة بالقرآن الكريم من تأليف الإيرانيين، حتى الكتب الموجودة في المدرسة السنية أو في سائر المدارس الإسلامية كلها من تأليف إيرانيين، وهم المبادرون للتأليف في جميع أنواع التفاسير والدراسات القرآنية، بل هم المخترعون لها مثل البلاغة القرآنية والمعجمية القرآنية كلها منها. والإضافة المهمة التي أضافها أيضا هي بعد الثورة الإسلامية، حيث أن نتاجها كان كبيراً جداً مقارنة بكل الدول الإسلامية بل بكل العصور السابقة.

اما بالنسبة لسلسلته الأخير هذه، "التنزيل والتأويل"، هذه سلسلة مهمة جداً جداً، أنا شخصياً لم أكن أهتم بدراسة التفاسير لأنها طويلة وتحتاج إلى وقت طويل،لكن هذه السلسلة أتاحت لي الاطلاع على التفاسير،وفهم القرآن بأسلوب سهل ومبسط، لأن الكتب عبارة عن روايات وقصص، يأتي في ضمنها الآيات القرآنية وتوضيحها بكل سهولة، خاصة عن طريق الحوار المتبادل بين أطراف المتحدثين في الرواية.

حتى صديقاتي عندما اطلعن على الكتب اعجبهن هذا الأسلوب وفهمن الكثير من القضايا والأمور التي كانت غائبة عنهن، فكلما طرأ على ذهني سؤالاً وجدت إجابة تلك التساؤلات في أطراف الحوار، وهنا نلمس التيسير والتبسيط في طرح القضايا في هذه السلسة مقارنة بالكتب التقليدية العادية التي تجعلني في الحقيقة أمل من قراءتها، فأمتنع عن اكمال قراءة الكتاب بحجة أنها موجهة للمتخصصين في هذا المجال.

أهم الأشياء التي استفدتها من كتب التنزيل والتأويل هو التدبر، هذه السلسلة تحاول أن تعلمنا كيف نتدبر القرآن الكريم، وكيف نفهم أبعاده الأخرى غير البعد الحرفي الظاهري إلى آخره، وكذلك كيفية العمل بالقرآن وهذا ما سماه الدكتور في سلسلته بالتدبر العملي، كذلك التدبر الواقعي كيف نحيي القرآن وبأدلة حقانية القرآن في الواقع، إلى آخره.

وبعد الانتهاء من قراءة كل كتاب، أحاول كتابة مقال يعرف به، من خلال شرح مبسط لما جاء فيه من فصول، حتى يتضح للقارئ سهولة الكتاب، وهذا ما يشجعه على المطالعة.

فهدف الدكتور هو وصول هذه المفاهيم الى أذهان عامة الناس بيسر وسهولة،حتى يتمكنوا من الإحاطة بما جاء في القرآن الكريم وتدبره تدبرا عمليا واقعيا، بعيدا عن كل المغالطات والشبهات.

الأكاديمية الجزائرية وأستاذة التصوف في الجامعة الجزائرية "الدكتورة رشا روابح"

وبعد ذلك، ألقت الأكاديمية الجزائرية وأستاذة التصوف في الجامعة الجزائرية "الدكتورة رشا روابح" محاضرة في هذه الندوة الافتراضية تحت عنوان "التفسير العرفاني للقرآن الكريم في الجزائر؛ عفيف الدين التلمساني والأمير عبد القادر الجزائري أنموذجين" .

وقالت الدكتورة رشا روابح إن هناك تفاسیر عرفانیة صوفیة للقرآن الکریم في الجزائر قد قام بها "عفیف الدین التلمساني" و"عبدالقادر الجزائري"، مشيرة إلی قول "الراغب الإصفهاني" إذ وصف تفسیر القرآن بأهم إنجازات البشریة مؤکدة أن تفسیر القرآن الکریم خیر العلوم. 

فيما يلي النص الكامل لمحاضرة "الدكتورة رشا روابح":

"يقول الراغب الإصفهاني: إنّ أشرف صناعة يتعاطاها الإنسانُ: تفسير القرآن وتأويله". فلا شكّ أن علم التفسير من أجل العلوم لتعلقه بكلام الحق تعالى، لذا تكثّر علماؤه، وتنوعت مناهجه، وتعددت مصنفاته، ليتعاون علماءُ الأمة على تفسير كتابهم، كلٌّ بحسب اختصاصه العلمي وهمّه الحضاري أو قوة استنباطه للمعاني العميقة وشعلةِ فهمه لدقائق النص، فنتج عن هذا عدة أنواع للتفسير القرآني، منها التفسير بالمأثور، وبالرأي، والتفسير الفقهي، واللغوي، والعلمي، والاجتماعي، وغيرها. وفي سياق هذا التنوع، يندرج التفسير الإشاري أو العرفاني أو الذوقي، كلها تسميات لمسمى واحد، وهو منهج العرفاء في قراءة النص القرآني وفهمه والتفاعل مع آياته. 

وهذا النوع من التفسير الذي يَعبُر من خلاله العارف الذي يعيش تجربة الوحي المتجدد حجابَ الأحرف والكلمات المخلوقة إلى المعاني الأزلية الأبدية والمتجددة مع كل نَفَس، يفتح للقارئ آفاقاً رحبةً مع النص القرآني، ويكشف له عن مكنونات جمالية ومكنوزات جلالية غير متناهية لعدم تناهي عجائب النص نفسو من حيث المعنى.

وتتنوع تجارب العارفين في التعاطي مع القرآن الكريم بحسب تنوع التجارب العرفانية نفسها، ومن بين هؤلاء الذين منحوا للقارئ فرصةَ الغوص في هذا الجمال والجلال القرآني عارفين جزائريين هما عفيف الدين التلمساني والأمير عبد القادر الجزائري.

واخترت هذين العَلمين كونهما من نفس المدرسة العرفانية؛ مدرسة الشيخ الأكبر بن العربي، وإن لم يؤلفا تفسيراً كاملاً، غير أن ما تضمّنته نصوصُهما من واردات عرفانية في تفسير القرآن الكريم، جديرة بالاهتمام في الدرس التفسيري العرفاني الجزائري بخاصة.

وقبل الحديث عن هاتين الشخصيتين، يحسن بنا أن نشير بإيجاز إلى مفهوم التفسير العرفاني الصوفي. في الحقيقة، لم يكن هذا النوع من التفسير وليد نشوء التصوف الإسلامي كما يفترض بعض الباحثين، حيث نجد أن أُولى ملامحِه قد تشكلت في زمن النبوة، وبخاصة مع أهل البيت -عليهم السلام- كابن عباس (ترجمان القرآن) والإمام علي(ع)، فهو باب مدينة العلم، ليتمهد الطريق فيما بعد بشكل أبرز للإمام جعفر الصادق –عليه السلام- الذي لا يخلو مصنَّفٌ في التفسير الإشاري من أقواله، وقد جُمعت فيما بعد في مصنف مستقل تحت عنوان "كامل التفسير الصوفي العرفاني للقرآن.

والمراد بالتفسير العرفاني كما يعرفه الصابوني: هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره، لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين بالله أرباب السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم، أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة، بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني، مع إمكان الجمع بينها وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة. 

بمعنى أنّ التفسير العرفاني هو مكمّل للتفاسير الظاهرة وغير مقابل أو مناقض لها، فهو مضيف لمعانٍ جديدة توصل إلى لُباب المعاني الظاهرة، وخارق للعبارة ليكشف الإشارة. وقد حذّر الإمام الآلوسي من الخلط بين المنهجين العرفاني والباطني، فقال: "وأما كلام السادة الصوفية في القرآن، فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان، لا أن الظاهرَ غيرُ مرادٍ أصلا وإنما المراد الباطن فقط، ومن ادّعى فهم أسرار القرآن باطنا قبل إحكام التفسير الظاهر، فهو كمن ادّعى البلوغ إلى البيت قبل أن يجاوز الباب.

لذا وضع العلماء ضوابط لهذا النوع من التفسير هي:

- ألا يناقض معنى الآية.
2- أن يكون معنى صحيحاً في نفسه. 
3- أن يكون في اللفظ إشعار به.
4- أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم. 

وهناك ضابط خفي هو التقوى الشرعية الموجبة للعلم لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ فهي مفتاح الفهم عن الحق تعالى، وهي طهارة القلب التي أوجبها العارفون لتفسير كلام الله الذي ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة:79) "فكما أن ظاهر المصحف لا تمسه إلا البشرة الطاهرة، فكذلك باطن معناه لا يمسه إلى القلب الطاهر".

هذا بإيجاز فيما يخص مفهوم التفسير العرفاني وضوابطه. الآن نشير إلى التعريف بالعارفيْن اللذيْن بين أيدنا، العفيف والأمير. 

بالنسبة للعفيف التلمساني، هو أبو الربيع عفيف الدين سليمان العابدي الكومي التلمساني، وُلد في مدينة تلمسان، سنة 610 للهجرة، رحل إلى دمشق، وأقام بمنطقة الصالحية على سفح جبل قسيون، وهو المكان الذي دُفن فيه الشيخ الأكبر وبجواره الأمير عبد القادر فيما بعد. توفي التلمساني سنة 690 للهجرة.
الجزائر والقرآن؛ تجسید المفاهیم القرآنیة فی القصص الشعبیة
واقعا، المعلومات حول نشأة العفيف التعليمية شحيحة جداً وكل ما نجده حوله يبدأ من مرحلة شبابه حين كان عمره 24 سنة لما كان يحضر في بيت ابن العربي بدمشق مجلس سماع الفتوحات المكية مع صدر الدين القونوي الذي كان ينسخها. وهو يعتبر كلّا من ابن العربي والقونوي شيخا له. 

بالنسبة لمؤلفات العفيف، له مؤلفات ذات ثقل عرفاني كبير وقد كان بارعاً في تقديم شروحٍ لعدد من نصوص الصوفية الثقيلة برمزيتها، والكشف عن أسرارها المطمورة، على غرار كتاب المواقف للنفري، وفصوص الحكم، وتائية ابن الفارض ومنازل السائرين للهروي الأنصاري، وعينيّة ابن سينا، تحت عنوان: الكشف والبيان في علم معرفة الإنسان يشتمل على الدرّ النفيس وشرح كلام الرئيس.
 
له رسالة في علم العروض. وديوان شعري، وهو من أكثر كتبه حظوة بالاهتمام إلى جانب شرحه لمنازل السائرين. كما له أيضا كتاب معاني الأسماء الإلهية. وكتاب آخر مكين الصلة به، هو شرح الفاتحة وبعض سور البقرة، ورغم اقتصار تفسيره على الفاتحة وبعض من البقرة، غير أنه اشتمل على حقائق ودقائق عزّ نظيرها. والحقيقة أن شرحه هذا بداية مشروع تفسيري عرفاني لم يكتمل، حيث ورد في آخر ورقة من المخطوط: "وهذا بخط الشيخ المصنّف رحمه الله، فلما وصل مرض ومات". 

وصف أسلوبه في التفسير

بالنسبة لمنهجية العفيف التلمساني في التأليف، والأسس التي يعتمدها في تصنيف المسائل تقوم على نظرة ثلاثية للعرفان: (علم وعرفان وتحقيق) فهي أطوار معرفية، ويعتقد أن العالم لا يتكلم في طور العرفان، والعارف لا يتكلم في طور التحقيق، وأما المحقق فيتكلم في الأطوار الثلاثة. والتلمساني في مؤلفاته عموما، وتحديدا في تفسيره كان يتحدث في مقام التحقيق، لذا يغلب الرمز والإشارة في تفسيره.

حيث يقول في مقدمة تفسيره هذا: "فهذا كلام بلسان الوجود المستمدّ من حقيقة الجود، ليس بتفسير للكتاب على ما تعْهَدُه الأفهام والألباب.. ثم يقول: ولا أشترط أنْ أجد له سامعاً.. ولستُ أكلّفُ الخفاش أن يمدح الشمس.. غير أنّي أقول: قد وجدتُ مكان القولِ ذا سَعةٍ، فإن وجدتَ لساناً قائلا فقلْ".

ويلحظ قارئ العفيف التلمساني تميّز طرحه عن طرح الكثير من العرفاء، وعليه يختلف تفسيره من حيث الأسلوب والمحتوى عن التفاسير الإشارية التي اُلّفت قبله أو بعده. وهذا راجع إلى تأثره الكبير بالنفري، الذي كان بدوره يختلف عن أقرانه، من أمثال أبي طالب المكي، والسراج الطوسي. ينضاف إلى ذلك تميز أسلوب النفري في شرح المسائل وفق ثلاثية العلم والعرفان والتحقيق.

بسبب هذه الثلاثية (علم، عرفان، تحقيق) اعتبر ابن تيمية ابنَ العربي أقرب محققي الصوفية للإسلام، واعتبر التلمساني أبعدَهم عنه، ويرى التلمساني أن ابن العربي كان يشرح أغلب المواضيع في طور العلم مراعاة للعقول، وللمحجوبين كما يسميهم، في حين كان التلمساني يُكثر من تناول المسائل في طور التحقيق، لذلك لم يفهم علماء طور العلم مواقفه بشكل صحيح واشتدوا في انتقاده. وعلى رأسهم ابن تيمية الذي كان ينتقده نقداً لاذعاً وينعته بعبارات حادة؛ من قبيل الفاجر، وأفجر الناس، وفي الآن ذاته يعتبره من أذكى محققي الصوفية، ويُعجب كثيرا بشعره لكنه يصفه بأنه "لحم خنزير في طبق صيني". فحكم ابن تيمية على التلمساني كان حكم عالم على محقق، رغم تنبيه التلمساني المتكرر على وجوب التمييز بين المقامات حتى يتحقق الإنصاف في الحكم إذا تعذّر الفهم.

موضوع تفسيره

يتبأور تفسير التلمساني للفاتحة حول موضوع الوحدة المطلقة، وعلى هذا الأساس أيضا وضع نظريته في الأسماء الإلهية. وفكرة أصالة الوحدة واعتبارية الكثرة في الوجود، هي من أبرز ما يطرحه رواد المدرسية الأكبرية في مصنفاتهم، غير أنّ التلمساني يتفرّد بجرعة عالية من الجرأة أثناء طرحه للمسألة، بحيث سمح لنفسه بأن يتكلم من مقام التحقيق غير مراعٍ لنصيحة النبي(ص): "خاطبوا الناس على قدر عقولهم".

عالج التلمساني في تفسيره مواضيع متعددة، كمفهوم الزمان عند المتكلمين، ومسألة حدوث العالم، وانتقد مقولة الغزالي المشهورة: ليس في الإمكان أبدع مما كان"، وغيرها من المسائل.

نذكر بعض المحطات في تفسيره:

يلحظ قارئ التلمساني دقّة متفرّدة في تفسيره، حيث نجد أنه في شرحه لسورة الفاتحة، يستغرق شرح حرف باء البسملة ثماني صفحات كاملة.

نقرأ في تفسيره إشارة إلى تعدد العوالم ولا نهائيتها التي تتحدث عنها الفيزياء المعاصرة نظرية العوالم الموازية LLLES MONDES PARALEILES.

أهم نظرية تفرّد بها التلمساني في تفسيره تتعلق باسم الله تعالى "الهادي"، حيث يرى أنّ هذ الاسم في كل شيء، وأحكامه سارية في كل شيء، وأنّ كل شيء فيه كل شيء، وأنّ كل اسم في كل اسم، وكل الأسماء الإلهية تدور حول اسم الهادي. حيث يقول: "إنّ توجهات الأسماء إلى طالب الهداية مختلفة باختلاف مراتبها واعتباراتها، ودخولها كلها في معنى الهداية هو من جهة أن كل شيء فيه كل شيء، حيث يقتضي ذلك أن تكون الأسماء كلها داخلة تحت اسمه "الهادي" في مضمون قوله "اهدنا الصراط المستقيم" [وفكرة كمون كل شيء في كل شيء، نجدها أيضا عند الأمير عبد القادر الذي سنتحدث عنه لاحقا، وموجودة أيضا قبل ذلك عند ابن العربي وأعتقد أن هذه المقولة من مخرجات قكرة وحدة الوجود العرفانية].

يفصّل التلمساني فكرتَه، وكيف يتوجّه كلُ اسم من الأسماء الإلهية بحقيقة طلب الهداية من الاسم الهادي بسرّ "اهدنا الصراط المستقيم"،  فيقول مثلا: "اسمه النور يتوجه إلى حضرة الإمكان في طلب هدايته إلى ما هو حقيقة فيه، فهو يطلب محل قابلية الإضاءة، ليتحقق معناه ونورانيته"، ويقول: "وكذلك اسمه المُتعال؛ فإنه متوجه بصفة الافتقار إلى الاسم الهادي في طلب ما تظهر به هدايته إلى مَحالِّ تصرفاته مما تظهر به حقيقته بالفعل في الوجود.

كما يتبيّن من خلال شرحه لقاعدة دوران جميع الأسماء حول اسمه الهادي، تداخل الأسماء مع بعضها، وبطون بعضها في بعض، حيث يقول: "ولا تعتقد أن الأسماء إذا كانت كلها داخلة في حقيقة الاسم الهادي، أن الاسم الهادي نفسه لا يدخل تحت الأسماء، بل كل اسم يدخل باعتبارات مختلفة تحت كل اسم، والأسماء لا تتناهى، فالاعتبارات لا تتناهى، فعلم الله بها لا تتناهى، فالعبارة عمّا لا يتناهى لا تتناهى". وبالتالي هنا هو يفسح المجال لقراءة معاني الأسماء الإلهية بشكل عير متناهٍ.

أيضا من أمثلة شرحه لفكرة تداخل الأسماء فيما بينها، قوله عن اسم الفتّاح: "هذا الاسم ظاهر النسبة للاسم الرحمان، فإنّ مفاتيح الأشياء بيده لقوله تعالى: "ما يفتح الله للناس من رحمته". 

فالحقيقة رؤية عفيف الدين التلمساني تفتح آفاقا واسعة في التعاطي مع أسماء الله تعالى وشرحها، ولا يعتقد بحصرية المعاني ولا بانتهائها، حيث يعيش العارف تجربة الوحي المتجدد، وهي من جماليات الطرح العرفاني.   (هذا بالنسبة للتلمساني)

  الآن ننتقل إلى الأمير عبد القادر

وُلد الأمير عبد القادر الجزائري الحسني بقرية القيطنة التابعة لولاية وهران بالغرب الجزائري، سنة 1807م، وتوفي سنة 1883م بدمشق، ودُفن بجوار شيخه الروحي ابن العربي، بوصية منه.

كانت بداياته التعليمية في قريته بزاوية والده السيد محيي الدين، الذي كان زعيما روحيا، وشيخ الطريقة القادرية بالغرب الجزائري، ثم تتلمذ لجملة من علماء زمانه ومنطقته.

تولى الإمارة على الجزائريين بترشيح منهم، وعمره خمسة وعشرون سنة، وحارب فرنسا 17 سنة متواصلة. سُجن بعدها لمدة خمسٍ سنوات في سجون فرنسا، ثم انتقل للعيش بمدينة بورصا في تركيا، بعدها استقرّ به الحال بدمشق إلى أن توفي ودُفن هناك.

ونشأ الأمير نشأة صوفية، فعائلته عائلة عرفاء وأولياء أبا عند جد، يتصل نسبه بالأدارسة، وهم نسل الإمام الحسن عليه السلام، تعرّف الأمير على كتب الصوفية منذ صغره، وقد كان جده مجازا في المشرب الأكبري. نشأ الأمير قادريا، وأثناء رحلته إلى الحج، أخذ الطريقة النقشبندية عن شيخها بالشام الشيخ خالد النقشبندي، كما أخذ الطريقة المولوية بقونية، وختمها بالطريقة الشاذلية على يد شيخه محمد الفاسي، وكان ذلك في مكة المكرمة.

لُقّب الأمير بأبِ الجزائر، فهو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، وقد وُفّق للتوفيق بين السياسة والعرفان لتغدو هذه الثنائية عبر تجربته العرفانية ضفّتين لنهر واحد.

حقق الأمير الكثير من الإنجازات والإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

نذكر أهم الإنجازات بصورة موجزة:

من الناحية السياسية، فإن أبرز مهمة حضارية أسهم بها الأمير في النهضة العربية الإسلامية في عصر النهضة (ق19) هو تأسيسه للدولة الجزائرية الحديثة، حيث تمكن من تحقيق ما لم تحققه دول أوروبية إلا في مرحلة متأخرة من القرن 19م وبداية القرن 20م.

أسس الأمير دولته على ثلاثية إسلامية تمثلت في: البيعة، الشورى، والجهاد.

في المجال الاجتماعي، كانت للأمير بصمات متعددة ومتنوعة، أثناء إمارته وبعدها، كان فاعلاً اجتماعياً على جميع أحواله؛ أميراً، مغترباً،  لما كان أميرا جمع الشعب الجزائري تحت جامعة واحدة هي الجامعة الوطنية والإسلامية، وجمع شمل قبائل كانت على قدر كبير من التناحر.
الجزائر والقرآن؛ تجسید المفاهیم القرآنیة فی القصص الشعبیة
ومن أشهر مواقفه البطولية والإنسانية، موقفه من فتنة دمشق المعروفة سنة 1860م، التي ثارت بين الدروز والنصارى المارونيين، حيث هبّ الأمير مع رجاله إلى الأحياء المسيحية لردّ الهجمات الدرزية وحماية الملاجئ المسيحية مما أدّى بالتضحية ببعض رفقائه الجزائريين حماية لــ 15 ألف مسيحي.

 وكان يهِب الشباب مهوراً للزواج، واعتاد فقراء دمشق أن يلجؤوا إليه لنفقات تجهيز موتاهم، وقد عيّن مخصصات للفقراء يأخذونها أسبوعيا، وكان يوزع المواد الغذائية على مئات الأُسر الفقيرة طوال شهر رمضان، كما كان يتوسط للعفو عن المحكومين، كتوسطه إلى ملك الروس لأجل إطلاق سراح الشيخ شامل الداغستاني.

كذلك بالنسبة للإصلاح الأخلاقي، فقد حقق الأمير نجاحاً باهراً على المستوى الأخلاقي، حيث تم القضاء على السرقة والعهر وأمّن الطرق وغير ذلك.

بالنسبة للإصلاحات والإنجازات الثقافية، فهي كثيرة جداً، حيث بنا المدارس والمساجد وجمع آلاف المخطوطات، وكان يكافئ من يقدم له مخطوطاً، ويعاقب من يتلفه. ألف أيضا الكتب، واشتغل بتدريس مختلف العلوم والفنون، ولما استقر في دمشق أعاد إحياء مدرسة الأشرفية لعلوم الحديث.

كما يُعتبر الأمير أول من صحح ونسخ موسوعة الفتوحات المكية لأستاذه الروحي محيي الدين بن العربي.

ألف الأمير مجموعة من الكتب، هي كالآتي:

كتاب وشاح الكتائب وزينة الجند المحمدي الغالب: وهي عبارة عن رسالة تشريعية مستوحاة من الشريعة الإسلامية، وهو الدستور الذي وضعه الأمير للدولة أثناء إمارته.

كتاب المذكرات، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، مذيّلة ببعض المعلومات التاريخية التي يحتفظ بها الأمير.

المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد: وهو عبارة عن رسالة في الردّ على انتقادات قسيس مسيحي للإسلام.

كتاب ذكرى العاقل وتنبيه الغافل: وهو من أشهر مؤلفات الأمير، لاحتوائه على العديد من المسائل في مختلف المعارف؛ كالفلسفة والتاريخ والشريعة والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، وغيرها.

أيضا له ديوان شعري.

وكتاب المواقف، وهو أهم مؤلفاته، ضمّنه زبدة تجربته ومعارفه العرفانية.

هذه صورة موجزة جدا حول الأمير عبد القادر.

بالنسبة لكتابه الذي تتمحور حوله الدراسة عنوانه: المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف"، ويشير العنوان إلى أنه مواقف ومحطات مع النصوص القرآنية وما تشير إليه من أسرار ومعارف إلهية لا يكتشفها من يتوقف على ظواهر النصوص، وإن اعتكف على تلاوتها وأدمن النظر فيها. 

مراد الأمير من مصطلح المواقف هي تلك الحالات الروحية الشريفة التي يأخذه فيها الحق تعالى عن نفسه في حضرة قدسه، ويحققه بحقيقة آية من آيات القرآن العظيم. حيث يقول هو: "إن الله تعالى قد عوّدني أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني، أو يبشرني أو يحذرني، أو يعلمني علماً أو يفتيني في أمر استفتيته فيه، إلا ويأخذني منّي مع بقاء الرسم، ثم يلقي إليّ ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن، ثم يردّني إليّ، فأرجع بالآية قرير العين ملآن اليدين، ثم يلهمني ما أراد بالآية، وأتلقى الآية من غير حرف ولا صوت ولا جهة."

ويعود سبب تأليف هذا الكتاب إلى توافد جملة من علماء دمشق على الأمير، يستفسرون عما استُشكل عليهم من نصوص الفتوحات المكية وفصوص الحكم، فكانت هذه الحلقة الضيقة المكونة من علماء دمشق النواة الأولى لتأليف كتاب ضخم بحجم المواقف.

بالنسبة لتصنيف المواقف هي كالآتي:

2-1- المواقف المفتتحة بالآيات: تقارب المئتي موقفا
2-2- المواقف المفتتحة بالأحاديث النبوية أو القدسية: وتفسيرها تفسيرا صوفيا إشاريا، وعدد هذه المواقف نحو 45 موقفا.
2-3- المواقف التي في شكل إجابات: يجيب فيها غالبا عن أسئلة تتعلق بكتاب الفتوحات المكية، وعددها نحو 13 موقفا. 
2-4- مواقف لشرح أبواب من فصوص الحكم: وهي 5 مواقف، شرح فيها فص لقمان، فص إسماعيل، فص شعيب، فص آدم عليهم السلام.
2-5- مواقف حول وقائعه الروحانية: وهي نحو عشرة مواقف، وصف فيها الأمير بعض الوقائع الروحانية التي حصلت له، جلّها كانت لقاءات روحية مع الشيخ الأكبر. 
2-6- مواقف لشرح حِكم وأقوال وأبيات أشعار صوفية: وهي حوالي 9 مواقف.

أبرز مواضيع المواقف:

هي سبعة مواضيع أساسية كبرى هي: وحدة الوجود، الإنسان الكامل والحقيقة المحمدية، مراتب الوجود وتجليات الأسماء والصفات الإلهية، شمولية الرحمة، مدارج السلوك ومعارج المقامات والأحوال العرفانية، التجلي الإلهي في المعتقدات والأديان، وضرورة الالتزام بالشريعة ظاهرا وباطنا.

أسلوب كتاب المواقف:

كتاب المواقف هو كتاب عرفاني، وبالتالي غلب على نصوصه الأسلوب الرمزي الإشاري، خاصة في قراءة النص القرآني، حيث يلحظ المتصفّح للكتاب منذ الوهلة الأولى مركزية القرآن، وكأنه تفسير إشاري للقرآن الكريم.

والأمير أثناء تفسيره الإشاري ينبّه على أن للآية معنى آخر ظاهري وهو صحيح، وأن شرحه هو من باب الإشارة الذي لا يلغي المعنى الظاهري الوارد في التفاسير المعروفة، لذا نجده يوظّف عبارات احترازية كقوله مثلا:«قال عامة المفسرين: [كذا وكذا] وعندي من باب الإشارة أن المراد [هو كذا وكذا]» ، أو يقول: «أقول، من باب الإشارة، لا من باب التفسير: أن المعنى كذا وكذا". 

كذلك بالنسبة للأحاديث النبوية، فإنه يعتمد الرمز والإشارة في تفسيرها، ومثال ذلك شرحه للحديث النبوي: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، فيقول: «يريد ﷺ بطريق الإشارة أنه لا يصح ولا يستقيم لمن فتح الله عين بصيرته (...) أن يهجر شيئاً من المخلوقات (...) فإنها كلها شعائر الله".

على هذا الأساس، يُصنَّف كتاب المواقف ضمن الكتب النخبوية الموجهة لخاصة الخاصة، وليس موجّها لعلماء الرسوم فضلا عن العامة، الأمر الذي أنذر به في خطبة الكتاب حين قال: «هذه نفثات روحية، وإلقاءات سبّوحية، بعلوم وهبية، وأسرار غيبية، من وراء طور العقول، وظواهر النقول، خارجة عن أنواع الاكتساب، والنظر في كتاب، قيدتها لإخواننا الذين يؤمنون بآياتنا... وما قيدتها لمن يقول: هذا إفك قديم، وأساطير الأولين ويحجّر على الله تعالى (...) من علماء الرسم (...) فإننا نتركهم وما قسم الله تعالى لهم، فإذا أظهروا لنا ملاما وخصاما، تلوْنا: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان:63) (...) ولا نجادلهم، بل نرحمهم ونستغفر لهم، ونقيم لهم العذر من أنفسنا في إنكارهم علينا. إذ جئناهم بعلم مخالف ما تلقّوْه من مشايخهم المتقدمين (...) فالأمر عظيم، والخطب جسيم، والعقل عقال، والتقليد وبال (...) وطريقة توحيدنا إن لم يصدقه الجمهور والعموم فعند الله تجتمع الخصوم».

نماذج من تفسير الأمير العرفاني للقرآن الكريم:

أقتصر على الاستئناس بنموذج واحد فقط، ويمكن لمن أراد التوسع أن يجد مطلوبه في صفحات المواقف. يقول الأمير في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ (هود:41): "قال نوح العقل الذي هو وزير الروح، ومدبّر مملكته الإنسانية، لما خاف هلاك مملكة الخليفة، عندما فار تنور الهوى بالإفساد، وإيقاع الاختلاف بالمملكة، لمن أطاعه واتبعه: اركبوا فيها؛ في سفينة الروح الجامعة بين الشريعة والحقيقة... ونادى نوح العقل ابنه الهوى... وكان الهوى في معزل عن الروح والعقل ﴿ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ (هود:42) أطع الروح وانقدْ له... قال الهوى: ﴿سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ (هود: 43)... فقال نوح العقل لكمال معرفته ونفوذ بصيرته ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾.

في الختام أريد الإشارة إلى الأبعاد الجمالية للتفسير العرفاني، ولعلّ أول بعد جمالي لهذا التفسير يتمثّل في كونه ينقل مفهوم القرآن من كونه كتابا مُنزلا للهداية، إلى كونه صفة إلهية، وبما أنّ الله تعالى كل يوم هو في شأن، فإن تجليات صفاته كل يوم في شأن، ومنه فالقرآن هو تجل من تجلياته المتجددة وغير المتناهية، وهذا هو معنى "لا تنقضي عجائبه". 

العرفان يقرّ بانتهاء نزول القرآن لفظاً ومبنى مع وفاة محمد(ص)، ولكنه يؤكد على دوام تنزله ذوقاً ومعنىً على قلوب ورثته إلى يوم الدين. لذا يؤكد الأمير أن من أولياء الأمة المحمدية من يذوق تنزيل القرآن العظيم إلى اليوم.

 ومن جماليات الرؤية العرفانية للقرآن العظيم، أن القرآن الكريم هو رسالة حب من المحبوب الأول والمعشوق الأبدي سبحانه وتعالى، يخاطب الله فيها الإنسان ويرشده إلى الطريق المستقيم الذي يحقق له الفلاح والرشد، فالذي خلق المخلوقات بالحب وحبا في التعرف إليهم، هو من أرسل إليهم رسالة الحب (القرآن) لكي يتعرفوا عليه من خلالها، وبما أن الرسالة كُتبت بدافع الحب لابدّ وأن تُقرأ بالحب. يقول شمس التبريزي في احدى مقالاته: "أما بالنسبة للسالك في طريق الحق فكل آية من آيات القرآن هي خطاب ورسالة عشق."

أيضا من أجمل ما يقدمه التأويل العرفاني أنه يمنح الحرية الدينية في التعامل مع القرآن الكريم، حيث يفسح المجال لاستكناه النص القرآني بالنفاذ إلى باطنه والاستغراق في مضامينه التي تتبدّي للعارف المفسر خلف حُجب الألفاظ والكلمات، ذلك أنّ للآية الواحدة في القرآن، ومهما كانت مُحْكَمَةً -بل للكلمة الواحدة- عدّة مقاصد. وليس لأي كان قصر المقصد الإلهي على المعنى الذي يراه دون غيره، ولا يحقّ لأي كان مصادرة تفسير القرآن من علماء المسلمين، واحتكاره في فئة معينة ومحدودة مكلّفةٍ بإنتاج تفسير رسمي، خاصة في ظل غياب تفسير نبوي يختم مهمة التفسير. لذا، نجد كبار المفسرين أثناء تفسيرهم يستأنسون بتفسيرات غيرهم، ويشيرون إلى عجزهم عن الإحاطة بالمعاني أحياناً بعبارة "والله أعلم"، ثم يتركون المعاني القرآنية مفتوحةً على تدبُّرٍ جديدٍ وفهمٍ جديدٍ. كما أشار الأمير: "وأهل طريقنا رضي الله عنهم ما ادّعوا الإتيان بشيء جديد، وإنما ادّعوا الفهم الجديد في الدين التليد.

 وأكد في موضع آخر أنّ "كل من قال في مسألة: هذا مراد الله تعالى لا زائد عليه، أو مراد رسول الله(ص) لا غير، فقد أعظم الفرية. 

هذه السعة في التعاطي مع القرآن الكريم تجعله حيّا ومتجددا وباعثا للنظر والتدبر، كلٌّ يأخذ منه على قدره، وعلى حسب استعداده، وهذا هو معنى صلاحية القرآن لكل زمان ومكان.

أيضا من أبعاد الجمال أيضا في التأويل العرفاني كونه يقرأ النصوص القرآنية في اتجاه إنساني كوني، يسمح بتعدد القراءات وتنوع التفسيرات، ويرى المؤتلف في المختلف، ويوفق بين الظاهر والباطن. ويوسّع دائرة الاجتهاد، فيسمح بإنتاج فهم جديد لا يلغي القديم وإنما يمدّد حدقة الرؤية. طبعا بعد الالتزام بالضوابط التي وضعها العلماء، ولا يعني هذا أن يُترك باب التفسير مشرعا لكل عابر سبيل.

إن القرآن العظيم عند العارفين ليس مجرد آيات مرصوصة بشكل منظم، بل إن كل حرف من حروفه وكل كلمة من كلماته وكل آية من آياته هي مطالع تجليات وشؤن إلهية، ومشاهد ومعارف ربانية غير متناهية.

4052656

captcha