
فيما يلي نص البيان:
بسمه تعالى
الانس بولاية أهل البيت (ع) من أعظم نعم الجنة ومسؤوليتنا تجاهها[1]
من مظاهر رحمة الله تعالى وتجليات لطفه بعباده لجذبهم إلى الهداية والطاعة هو تعجيل بعض نعم الجنة لعباده المؤمنين في دار الدنيا؛ ليتذوقوها ويتلذذوا وينتشوا بها فيتشوقون إلى الجنة ويندفعون إلى الأعمال الموجبة لها [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء: 19).
ومن تلك النعم معرفة الله تعالى ومحبته والأنس بلقائه والنظر إلى وجهه الكريم، وهي أعظم نعم الجنان قال تعالى: [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (التوبة: 72). ومن دعاء
الامام الحسين (ع) التام في معرفة الله تعالى ومحبّته : (ماذا وَجَدَ مَن فَقَدَكَ ومَا الَّذي فَقَدَ مَن وَجَدَكَ)[2] والكلام مطلق شامل لنعيم الجنان.
لذا كان العارفون بالله تعالى يتلذذون بعبادته ومناجاته تعالى (فَهُمْ وَالْـجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ)[3] فعبادة الله تعالى عندهم ليست تكاليف تؤدى طلباً للثواب أو خوفاً من العقاب، وإنما هي نِعم اهديت اليهم من الجنة ليتنعموا بها، روى في الكافي عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: (قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي الصديقين تنعموا بعبادتي في الدنيا فإنكم تتنعمون بها في الآخرة)([4]).
إقرأ أيضاً:
يقول الإمام السجاد (ع) في مناجاة العارفين: (وَقَرَّتْ بِالنَّظَرِ إلى مَحْبُوبِهِمْ أَعْيُنُهُمْ،) إلى أن يقول: (إلهِي ما أَلَذَّ خَواطِرَ الإِلْهامِ بِذِكْرِكَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَما أَحْلَى الْمَسِيرَ إلَيْكَ بِالأَوْهامِ فِي مَسالِكِ الْغُيُوبِ، وَما أَطْيَبَ طَعْمَ حُبِّكَ، وَما أَعْذَبَ شِرْبَ قُرْبِكَ...)([5]).
ومن تلك النعم([6]) ولاية أهل البيت (ع) ومودّتهم([7]) والأنس بذكرهم وزيارة مشاهدهم وتعظيم شعائرهم، فإنها من نعم الجنة العظمى التي اتحف الله تعالى بها الموالين لأهل البيت (ع)، وكلما ازدادت نشوتهم بهذا الولاء والمودّة الصادقة ازداد تعلقهم بحب اهل البيت (ع)، مع ما يرون منهم (ع) من نجدة لهم في وقت الشدة وإغاثة في حال الكرب.
وقد دلت الروايات على ان نعمة القرب من أهل البيت (ع) لا تضاهيها نعمة من نعم الجنة بعد معرفة الله تبارك وتعالى، وأن الأنس بهم (ع) يشغل أهل الجنة عن النظر إلى نعمها الأخرى، روى زرارة عن الإمام الباقر (ع) أو الصادق (ع) أنه قال: (يا زرارة إذا كان يوم القيامة جلس الحسين (ع) في ظل العرش وجمع الله زواره وشيعته ليبصروا من الكرامة والنصرة والبهجة والسرور إلى أمر لا يُعلم صفته إلا الله فيأتيهم رسل أزواجهم من الحور العين من الجنة فيقولون إنا رُسل أزواجكم إليكم يقلن: إنا قد اشتقناكم وأبطأتم عنا فيحملهم ما هم فيه من السرور والكرامة على أن يقولوا لرسلهن: سوف نجيئكم إن شاء الله)([8]).
ورُويت بشكل آخر أكثر تفصيلاً في كامل الزيارات عن زرارة وفيها (وما من عبد يُحشَرُ إلاّ وعيناه باكيةً إلاّ الباكين على جدِّيَ الحسين (ع)، فإنّه يحشر وعينه قَريرة، والبشارة تلقاه والسّرور (بيّن) على وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يعرضون وهم (حدّاث)([9]) الحسين (ع) تحت العرش وفي ظلِّ العرش، لا يخافون سوءَ يوم الحساب، يقال لهم: ادخلوا الجنّة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وأنَّ الحور لترسل إليهم أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلّدين فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم مِنَ السُّرور والكَرامَة، وإنَّ أعداءَ هم مِن بين مَسْحوب بناصيته إلى النّار، ومِن قائل: [ما لَنا مِن شافِعينَ، وَلا صَدِيقٍ حَميم]، وإنّهم ليرون منزلهم، وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإنَّ الملائكة لتأتيهم بالرِّسالة مِن أزواجهم ومِن خُزّانهم على ما أُعطوا مِن الكَرامة فيقولون: نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم، فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبّروهم بما هم فيه مِنَ الكَرامة وقُربهم مِن الحسين (ع)، فيقولون: الحمد لله الَّذي كفانا الفَزَع الأكبرَ، وأهوال القيامة، ونجّانا ممّا كنّا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرِّحال على النَّجائب، فيستوون عليها، وهم في الثَّناء على الله والحمد لله والصَّلاة على محمَّدٍ وآله، حتّى يَنْتَهوا إلى منازلهم)([10]).
أيها الأحبة:
لذا قلنا إن السير إلى الإمام الحسين (ع) وزيارته طريق إلى الجنة بل هي الجنة، ولذا يلتذ عشاق أبي عبد الله (ع) بها رغم ما يصيبهم من العناء([11]) والمشقة الكبيرين مما يعجز عن تحمل يسير منه في غير هذه الطاعة المباركة، ويعيشون الحرقة والأسى عندما تنتهي مدة الخدمة ويقوِّضون خيامها.
إن هذه النعمة العظيمة توجب علينا مسؤوليات كما اوجبت لنا تشريفاً وكرامه منها:
1- التمسّك بالإسلام المحمدي النقي الأصيل الذي نستقيه من معينه الصافي: القرآن الكريم وأحاديث النبي (ص) وعترته الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) في جميع أمورنا الفردية والاجتماعية والقوانين التي تنظم حياتنا، فإن الإسلام أثمن جوهرة وهبها الله تعالى لعباده فلا بد من المحافظة عليها بأي ثمن كما ضحّى الإمام الحسين (ع) بأعزّ أهلٍ وأصحاب من أجل بقاء الإسلام نقياً من التحريف.
وعلينا ان ننفي عنه الضلالات والشبهات التي يواصل أعداء الإسلام دسها لتشويه صورة الإسلام وإبعاد الناس عنه ويساعدهم على ذلك أفعال الجهلة من مدَّعيه.
2 – بذل الوسع في دعوة الناس إلى الله تبارك وتعالى ونشر تعاليم أهل البيت (ع) حتى يهتدي كل الناس إلى نور التوحيد وولاية أهل البيت (ع)، ويكون ذلك بعد التفقه في علوم الدين ومعارفه وأخلاقه امتثالاً لقول الله عز وجل {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) وقول الإمام الرضا (ع): (رحم الله عبدا أحيا أمرنا. فقلت له: فكيف يحيي أمركم قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)([12]).
3- إدامة هذه الشعائر المباركة وإظهارها بأبهى صورها وتوسيعها لتصل إلى العالم كله ومنع محاولات تشويهها وإفراغها من محتواها وأهدافها وتحويلها إلى طقوس ومهرجانات شعبية لا علاقة لها بأهداف القيام الحسيني التي صَرّحَ بها في كلماته (ع) حتى تسمع جميع البشرية نداء الحق فتهفوا إليه.
4- المحافظة على وحدتكم والألفة والمودة بينكم التي تجلت في أنواع الخدمة الحسينية التي لا نظير لها ويعجز اللسان عن وصفها، ولم تتحقق هذه المودة التي وحّدت ملايين من المؤمنين ينتمون إلى مائة دولة تقريباً إلا بالألطاف الإلهية وببركة ولاية أهل البيت (عليهم السلام) [هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (الأنفال: 62-63).
فلا يجوز أن نعيش هذه النعمة في أيام الزيارة فقط ثم نتخلى عنها ونعود إلى انقساماتنا ونزاعاتنا وعصبياتنا وتحزّباتنا، فهذا تفريط بهذه النعمة وسوف نندم عليه، وحينئذٍ نكون ممن ينطبق عليهم قوله تعالى {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل : 92]
5- الالتفاف حول المرجعيات الدينية المخلصة العاملة الرشيدة امتثالاً لأوامر الأئمة المعصومين (ع)، فإنها القائد إلى الخير كله والكهف الحصين الذي تأوي إليه الأمة، فلا بد من الدفاع عنها ورد الشبهات والأكاذيب التي تحاول فصل الأمة عنها.
6- التحلي بالوعي والبصيرة وقراءة الأحداث بعمق وتحليل لا بسذاجة وسطحية فإن الأعداء مستمرون في الكيد لنا وتغليف حروبهم العسكرية والناعمة الأشد خطراً بعناوين خادعة، فعلينا فهم حقيقة الصراع، قال الله تبارك وتعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا][13] (البقرة: 217).
اللهم اجعلنا من الشاكرين لإلائك، المداومين على طاعتك، المستقرين في محبتك، الثابتين على ولاية اوليائك، والمستشعرين لذة القرب منك، ولاتجعلنا الغافلين المبعدين.
ـــــــــــــــــــــ
[1] - بيان زيارة الأربعين لسنة 1447 هــ التي تصادف 15/ 8 / 2025م
[2] - من دعائه (ع) يوم عرفة مفاتيح الجنان.
[3] - نهج البلاغة خطبة 193 ، من خطبة يصف فيها المتقين.
4 - الكافي، للكليني: ج 2، ص 83.
([5]) وهي إحدى المناجيات الخمس عشرة التي نُقلت عن الإمام السجاد (ع)، نقلها المجلسي في بحار الأنوار: ج 91، ص 150، وجدتها مروية عنه عليه السلام في بعض كتب الأصحاب رضوان الله عليهم، ونقلها الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان، وصارت تطبع مع الصحيفة السجادية مؤخراً.
([6]) ولا يفوتني أن أذكر هنا أن من تلك النعم الزوجة الصالحة فقد اختارها الله تعالى لعبده المؤمن وفضّلها على الحور العين، ففي الحديث عن أم سلمة زوج النبي أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: (يا رسول الله، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قال: يا رسول الله، ولم ذلك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله تعالى، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب) رواه الطبراني في المعجم الأوسط. وفي مستدرك الوسائل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (وما مِن امرأة تكسو زوجها إلا كساها الله يوم القيامة سبعين خِلعة من الجنة كل خلعة منها مثل شقائق النعمان والريحان، وتُعطى يوم القيامة أربعين جارية تخدمها من الحور العين) (مستدرك الوسائل، للميرزا النوري: ج 14، ص 245).
[7] - فصلنا الكلام في نعمة ولاية اهل البيت في أكثر من قبس في تفسير (من نور القرآن) كقوله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى : 11] وقوله تعالى {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم : 28] وقوله تعالى {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]
([8]) بحار الأنوار: ج 75، ص 101، ح25 عن نوادر علي بن أسباط ضمن الأصول الستة عشر: ص 123.
([9]) أي يتحدثون مع الإمام (ع).
[10]- كامل الزيارة، لابن قولويه: ص 84.
[11] - تجاوزت درجة الحرارة في العراق أيام الزيارة خمسين درجة مئوية والموالون يسيرون تحت الشمس المحرقة مئات الكيلومترات.
[12]- عيون أخبار الرضا، للشيخ الصدوق: ج 1 / ص 275، معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - الصفحة ١٨٠
[13] - راجع تفاصيل هذه الحرب وانوعها في تفسير (من نور القرآن) عند هذه الآية.