ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة..

مَنْ خَلا بِالْعِلْمِ لَمْ تُوحِشْهُ خَلْوَةُ

0:09 - August 10, 2025
رمز الخبر: 3501245
بيروت ـ إکنا: إن الخلوة عند عامة الناس مرادفٌ للوحدة والفراغ والوحشة والانقطاع عن الناس، وصمت يُطبق على المكان الذي يخلو فيه الإنسان بنفسه، وقد تكون عند البعض مرادفة للغربة النفسية.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ خَلا بِالْعِلْمِ لَمْ تُوحِشْهُ خَلْوَةُ".

تكشف هذه الجوهرة العلوية الكريمة عن معادلة عالية الأهمية، تربط بين طلب العلم والأنس به، وانتفاء الوحشة والوحدة، وفيها دعوة إلى الانكباب على طلب العلم مطالعة ودراسة وأخذاً من العلماء.

الخلوة عند عامة الناس مرادفٌ للوحدة والفراغ والوحشة والانقطاع عن الناس، وصمت يُطبق على المكان الذي يخلو فيه الإنسان بنفسه، وقد تكون عند البعض مرادفة للغربة النفسية، لكنها عند أهل الفكر والعلم والمعرفة، لحظة صفاء واستنارة، هي عالم مختلف يفتح للإنسان نوافذ واسعة على التأمُّل والتفكُّر، تصفو فيه النفس، وتسمو به الروح.

في هذا السياق تجيء هذه الجوهرة العلوية الكريمة: "مَنْ خَلا بِالْعِلْمِ لَمْ تُوحِشْهُ خَلْوَةُ" لتختصر العلاقة بين الإنسان والمعرفة، والجَوّ المثالي الذي يتيح للإنسان أن يطلب المعرفة فيه، وهو أن يخلو مع العلم، كتاباً يقرؤه، أو بحثاً يكتبه، أو رأياً يناقشه، أو مختبراً يختبر فيه، أو تفكُّراً في أمر يريد أن يكتشف كُنهه، فتكون خلوته هذه ميدان معرفة، وساحة لقاء بالعلم، وانغماساً في تجربة فكرية تصقل ذهنه، وتزكّي عقله، وتنَمّي مداركه.


إقرأ أيضاً:


والخلوة بالعلم خلوة بأصدق وأنبل رفيق، هي خلوة لا مَلَل فيها ولا ضجر، هي خلوة أنسٍ وطمأنينة وراحة للنفس، ويقظة للعقل، وصفاء للفكر، فالعلم أنيس، ودليل، ومرشد، وسمير، والذي يخلو بالعلم وإن كان ظاهره الانفراد لكنه في الحقيقة يجالس العلماء والمفكرين والفلاسفة والفقهاء والشعراء والأدباء والسياسيين والمبدعين والمخترعين، يستمع إليهم تارة، ويناقشهم تارة أخرى، فهو في خلوة ظاهرية لكنه يجالس قادة المجتمع، وعِلية القوم.

الذي يخلو بنفسه يطلب علماً من كتاب، أو يفكِّر بأمر، أو يمعن النظر في قضية، لا يكون وحيداً أبداً، بل هو في صحبة العقول الراجحة، وإن كان متأمِلاً متفكِّراً في ظواهر الوجود فهو في الحقيقة يعيش في أرحب العوالم وأوسعها، وفي صلة وطيدة بكائنات الله وأسرارها، ولذلك نجد أن معظم العلماء والعباقرة والفلاسفة والمبدعين عبر التاريخ إنما نبغوا وهم يطلبون العلم في خلواتهم، فالذي يخلو بالعلم تنفتح أمامه أبعادٌ غير محسوسة، اللحظة الصغيرة قد تفتح له الباب واسعاً على فكرة عظيمة، والمكان الضيِّق يمتد ويتسع ليشمل الكون كله.

والعلم قارئي الكريم أساس العمران، ومفتاح تطور الإنسان، فما من حضارة قامت، ولا أمة نهضت، ولا مجتمع تطور، إلا وكان العلم حجر الزاوية في بنائه، فالعلم ضرورة وجودية للبشر، وشرط أول في ترقية الحياة، وفهم العالم، وتسخيره لما ينفع الإنسان.

وقد أولى الإسلام العلمَ أولوية مطلقة، ورفعه فوق كل الواجبات، واعتبره القيمة الأسمى، والطريق الأمثل لفهم الكون، ومعرفة خالق الكون، وجعله شرطاً لخلافة الإنسان عن الله في الأرض، وشرطا أساسياً لعبادة الله على بصيرة.

ويكفيك أن تعلم قارئي الكريم، أن أول ما نزل به الوحي على محمد بن عبد الله (ص) قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿العَلَق: 5﴾.

لقد أُعلنَت نُبوَّة محمد (ص) ورسالته بهذا الإعلان، الذي يدعونا إلى التفكير فيه ملياً، فمن وجهة نظرنا القاصرة نحن البشر، لعله كان ينبغي أن يقول له الوحي أول ما نزل عليه: يا محمد أنت نبي، أو يا محمد أنت رسول الله، لكن الأمر لم يكن كذلك، فالله الحكيم العليم قال له: (اقرأ) ثم مضى متحدثاً عن خلق الإنسان من عَلَق، أي متحدثاً عن عالم التكوين، ليؤكد أن مهمة رسول الله (ص) ومهمة أمته من بعده هي بناء الحياة الإنسانية المُثلى، والحياة لا تُبنى إلا بعلم ينتمي إلى الله ويهتدي بهداه من جهة، وعلم بالحياة وقوانينها. 

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي

captcha