وإن الأمة الراشدة التي ينشدها القرآن هي الأمة التي تمثلت خطى الأنبياء(عليهم السلام) واستوعبت حركة التاريخ واستفادت من التجارب والأحداث.
لقد سبق للفرعونية أن ادّعت الرشاد لنفسها،كما في قوله تعالى:"قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
وفي مقابل ما كان يأتي به كل نبي من هدى ورشاد،كما قال تعالى "وقال الذي آمن يا قوم اتبعونِ أهدكم سبيل الرشاد.". وهكذا نجد أن القرآن يقابل بين الدعوات، ويرشد إلى حقيقة ما ينبغي أن يكون عليه الناس من تفكر واعتبار ووعي بحاكمية السنن التاريخية لجهة جريانها في حياة البشر وعملها فيهم دونما تمايز بينهم..فالأمة الإسلامية ليست بدعاً من الأمم، وقد ورثت هذه الأمة كل تفاعلات البشر وتحولاتهم في الحق والباطل، والهدى والضلال إلا أنه يبقى لهذه الأمة ما يميزها في هذه الوراثة، حيث إنها استجمعت في تجربتها حركة التاريخ، واستوت على ما لم تستوِ عليه أية أمة من الحق والهدى والبيان الإلهي.
فرسالتها خاتمة الرسالات، ونبيها(ص) خاتم الأنبياء، وكانت لها خلاصة التجارب، ومنتهى الرشاد الإلهي، وقد خصّها القرآن بالخيرية والشهادة والوسطية ليكون لها تمايز القول والفعل والأثر في التفاعل والتعارف والتدافع على النحو الذي يؤدي بها إلى أن تكون أمة القرآن فعلًا في تصويب المسار الإنساني، وإحقاق الحق، فلا تشتبه عليها المسائل ولا تضيع عنها البدائل والدلائل،لكونهاكما قلنا الأمة الوارثة والهادية وذلك بعد أن استقرت بها حركة التاريخ عند جوهر رؤيتها وكمال رسالتها.
إن القرآن الكريم لم يغفل عن ذكر ما يكون به الرشاد لهذه الأمة، فقال تعالى:" أولئك هم الراشدون.." في سياق الحديث عن الطاعة للنبي(ص) وزينة الإيمان في القلوب،كما جاء في سورة الحجرات، فلا ينبغي لمن يتدبر في القرآن تجاهل معنى ما يكون به الرشاد للأمة، سواء في الماضي أو الحاضر أو في المستقبل، وهذا ما نرى أن عقلاء الأمة قد انحرفوا عنه في تأسيساتهم الدينية والسياسية، فإذا كان المسلمون في العصر الإسلامي الأول لم يكترثوا لمعنى ما يكون به الرشاد للأمة؛ فما معنى أن تستمر الأجيال الإسلامية على صلفها في تجاوز ما جاءها به الإسلام من تأسيسات لتكون الأمة الراشدة؟
وهنا السؤال، هل ما تعايشت معه هذه الأمة من فرعونيات دينية وسياسية في تاريخها يدلل على أنها كانت أمة راشدة؟ فالقرآن يقول:"اعلموا! فيا له من تنبيه يثير دفائن العقول ويدفع بها لاستحضار التجارب لتكون ماثلة بين يدي هذه الأمة التي لم تكن في كثير من تحولاتها أمة الرشاد!، يقول القرآن:"واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم، ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون..".
فالقرآن يعرف لنا هذه الأمة الراشدة بسوادها ونخبها وبكل تجلياتها، فلماذا الإصرار من علماء هذه الأمة، وخصوصاً المحدثين منهم، على وسم هذه الأمة بالرشاد وهم يعلمون حق العلم أنها لو كانت كذلك فعلًا في الماضي والحاضر لما كانت الفتن قد ازدحمت عليها لتكون مثارًا لكل فرعونية بعد وفاة رسولها(ص)، فهي أمة لم تعقل جيدًا معنى (واعلموا أن فيكم رسول الله)،لم تعقل أنه إذا كان لها ثمةقيمة، فهي إنما كانت لها لوجود رسول الله بين ظهرانيها، هذا فضلًا عن أن ما زعمته لنفسها من رشاد يبقى المقياس فيه زينة الإيمان في القلوب وليس في زخرفة المساجد أو في تيجان الخلفاء والأمراء، فالله يقول لو يطيعكم الرسول(ص) في كثير من الأمر لعنتم واستبدت بكم المكاره والشدائد، وهذا ما يمكن اعتباره من أعظم وأهم الأسس لبناء الأمة الراشدة، ألستم تزعمون أيها العلماء أن نخبة الأمة الراشدة! منعت رسولها من كتابة كتابه الأخير لها لتكون على بينة من أمرها بعد وفاته!؟ألم تكن كلمات الرسول(ص) هي الكلمات الأخيرة في أمته بما هي تجسيد حقيقي لقوله تعالى:"واعلموا أن فيكم رسول الله..."،فذلك الحدث يرشد إلى أن الرسول(ص) لم يكن فيهم،لأنه لو كان فيهم لكان مطاعًا، فما بالكم تنسبون للأمة الرشاد ولما تجف المعصية بعد عن لوحة الوجود الإنساني!؟ أيها الناس دعونا نتدبر معنى قوله تعالى:"واعلموا أن فيكم رسول الله"،فهلاّ دخلنا في هذا الضمير(الخبر)،المقدّم لإفادة معنى الرشاد لهذه الأمة، فماذا عسانا نقول لأنفسنا اليوم ونحن نسأل القرآن عن تيهنا في الزمان والمكان والحياة.!كيف لنا أن نعود أدراجنا لنحي ما قد فات أو مات من هذا الخبر الإلهي الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة، فاللسان القرآني يحكي لنا حقيقة الموقف، ويجعلنا نستلهم معنى الرشاد لأمتنا في حاضرها ومستقبلها، فقوله تعالى:"أن فيكم رسول الله..فيه من الدلالة ما يكفي لنعلم أنه ما يزال فينا،ولكننا لم نجعل الإيمان زينة في قلوبنا،واكتفينا بزينة الترف على مظاهر ديننا!فحق علينا القول،لبئس ما قدمت أيدينا وقلوبنا أن قدمنا أنفسنا على رسول الله حيًا وميتًا!
فأنى يكون لنا الرشاد وقد أطعنا كل فاسق في أمتنا! حتى بلغ منا الاقتتال مبلغًا أوتظنون أنه من فراغ قال الله تعالى:"وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" بل قال ذلك لعلمه تعالى القديم أن هذه الأمة لن تستوي على عزة رسالتها ولا على طاعة رسولها،ما يؤدي إلى أن يكون بينها الاقتتال والهوان! ذالكم هو معنى أن يكون فينا الرسول(ص) أن نقدمه بين يدي حياتنا وديننا ودنيانا،ولما تاهت بنا الأحلام وسادت الأطماع خرجنا الى كل محافل الزينة لنعلن للناس موت الدين والإيمان في قلوبنا،ولا بأس بنا أن نزعم خلاف ذلك،طالما لدينا من العلم ما يكفي أن أمة الرشد والرشاد حقها أن يكون لها من المقدسات ما تفاخر به الناس،ولكن أين نحن من ذلك وفلسطين تبكي مقدساتها!ومكة تشكي حجها وحجيجها والكوفة تنتظر سيدها،،! نعم فلتذرف الدموع على رشاد أمة تهاوت حتى الأنين واشتملت شملة الجنين!فيا عجبي وكيف لا نعجب من أمة تاهت عن مجدها وطلبت العزة من غير أهلها!ولا زلنا نطوف بأمجادنا على أمل الفوز بالماضي على أمجاد فرق ومذاهب أقصى ما كان منها أنها جعلت القرآن مهجوراً والمسلم مقهورًا تحت وطأة الطاعة والتصديق لمن جعلوا من أنفسهم بدائل للرسول(ص) والرسالة في حياة المسلمين!؟
إن موقف القرآن من الأمة الراشدة هو ما بينه القرآن من ضرورة أن يكون الرسول(ص) فينا غير متقدمين عليه لا في دين ولا في دنيا، وهذا هو منتهى زينة الإيمان في القلوب والذي من مؤدياته الرشاد للأمة، سواء أكان الرسول حياً أم ميتاً، ذلك أن القرآن حينما قدّم الرسول(ص) في قوله تعالى: "واعلموا أن فيكم رسول الله.."،هو لم يقدمّه لكونه حياً وحسب، وإنما لكونه ممتداً في وجوده ورسالته الى يوم القيامة، فإذا ما أرادت الأمة رشاداً، فما عليها إلا أن تعيد الكرة ليكون لها بلاغها القرآني الجديد لعلها بذلك تعيد أمجاد عزتها ومفاخر رسالتها، وهذا ما هي عليه الأمة اليوم في فلسطين ولبنان وسائر البلاد الإسلامية التي تفاخر بالعودة، قولاً وفعلاً، إلى ضمير قوله تعالى:"واعلموا أن فيكم رسول الله..".والسلام.
بقلم الأكاديمي والمفكر الاسلامي اللبناني د. فرح موسى