ایکنا

IQNA

الزيارة الأربعينية.. مدرسة دولية للكرم والعطاء والتآخي

15:52 - August 12, 2025
رمز الخبر: 3501282
إکنا: تُعد الزيارة الأربعينية، التي تُقام سنويًا في العراق على مدى أكثر من عشرين يومًا، من مطلع شهر صفر حتى ثلثه الأخير، نموذجًا فريدًا للكرم والعطاء والسخاء.

وتُعد الزيارة الأربعينية، التي تُقام سنويًا في العراق على مدى أكثر من عشرين يومًا، من مطلع شهر صفر حتى ثلثه الأخير، نموذجًا فريدًا للكرم والعطاء والسخاء. ولا يقتصر هذا الكرم على المضيفين العراقيين فحسب، بل يمتد ليشمل المشاركين من مختلف دول العالم، حيث يبذل كل منهم ما ادخره من أموال وطاقات وأبناء، ويسخرون دورهم وحسينياتهم لخدمة الإمام الحسين (ع) وزواره الأبرار.
 
ويتحقق في هذه الزيارة المصداق القرآني لقول الله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّحَتَّى تُنفِقُواْمِمَّا تُحِبُّونَ)، فالبر، الذي يناله المخلصون والصالحون، يتطلب الإنفاق مما يحبه المرء من أموال وجهد، وهو ما يتجلى بوضوح في الزيارة الأربعينية، حيث يكرم المضيف الزائر في بيته دون معرفة مسبقة أو اهتمام بتوجهاته الفكرية أو المذهبية، فمجرد كونه من زوار الإمام الحسين (ع) يخول له دخول الدار وينال أعلى درجات الكرم والعطاء.
 
أبعاد الزيارة:
 
البعد المعنوي: يؤكد المتصدون لخدمة زوار الأربعينية أنهم لمسوا الزيادة والنماء في أرزاقهم عامًا بعد عام، مصداقًا لقوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)، فالإنفاق في سبيل الله محفوظ لديه ومُجازى عليه بأضعاف مضاعفة في الدنيا قبل الآخرة.

البُعد الرقمي: تشير المصادر شبه الرسمية إلى أن حوالي 80% من إجمالي الزوار هم من العراقيين، ما يدل على الحضور الشعبي الكبير لهم. وتتراوح نسبة المشاركة من الشعب العراقي بين 37% و 42%، مما يؤكد أن الزيارة لا تقتصر على قومية أو شريحة معينة، بل تشمل كافة المذاهب والأطياف، وتوحّد المجتمعات بهدف الوصول إلى الإمام الحسين (ع). كما بلغ عدد المواكب المسجلة على طرق الزيارة حوالي 13 ألف موكب، منها 250 موكبًا غير عراقي (2% من الإجمالي)، وقد تمكن هذا العدد الهائل من المواكب من إطعام وتوفير وسائل الراحة لأكثر من 25 مليون زائر العام الماضي.
الزيارة الأربعينية.. مدرسة دولية للكرم والعطاء والتآخي
البُعد الشعبي: يشدد العلماء على أهمية بقاء الزيارة بطابعها الشعبي، بعيدًا عن المأسسة والتنظيم الرسمي، فقوتها تكمن في إقامتها وإدارتها من خلال الحراك الشعبي والعمل التطوعي في العراق والعالم. وتتجلى فيها الشعائر الحسينية التي ترسخ في قلوب الناس، وتجعلهم متمسكين بالدين الحنيف، مصداقًا لقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَاللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وتظهر في الزيارة روح الفريق الواحد والعمل الجماعي في إدارة هذا التجمع البشري، وهي خير مثال للحديث النبوي الشريف: (يد الله مع الجماعة).
 
البُعد القيمي: تغذي الزيارة الأربعينية المجتمع أخلاقيًا وإنسانيًا، حيث يكون أغلب الزوار في أعلى درجات الإيمان والأخوة، ويتعاونون على خدمة بعضهم البعض. إنها مثال حي للأخوة الإيمانية، حيث يدافع الأخ عن أخيه، وينظر كل منهم إلى الآخر بعين الرحمة، ويتسابقون لخدمة الزوار وقضاء حوائجهم. وهذا يجسد قول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاتَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ). وفي منهج الحسين (ع)، تتجلى روح التعاون المشترك والتنافس الشريف والتسابق على الخيرات والبركات.
 
دور العلماء وزوال العناوين:
 
لا يمكن إنكار دور العلماء والفقهاء في التثقيف المستمر لإحياء الزيارة الأربعينية والمشاركة فيها. فقد كانوا روادها ومؤسسيها، وضحى الكثير منهم بالإعدامات والسجون في سبيل إقامة هذه الشعيرة المباركة. وهذا ما أوصى به الكتاب المبين في اتباع العلماء، مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
 
لقد خلقت الزيارة الأربعينية رأيًا عامًا وعقلًا جمعيًا بأن الجميع سواسية عند باب الحسين (ع). فالصغير والكبير، والغني والفقير، والعاصي والمتقي يتجردون من صفاتهم وأنسابهم ومكانتهم الاجتماعية ليصبحوا تحت عنوان "خادم الحسين (ع)". هذا المنظر يذكر بشعيرة الحج، حيث يرتدي الجميع لباسًا واحدًا، ويتجردون من ملذات الدنيا، ويتجهون نحو عبادة الباري عز وجل في مكان ووقت واحد، ليشعروا بلذة الذل في سبيل الله تعالى. إن عنوان الحسين أعلى من الجميع، ويتشرف كل وجيه بالانتساب له والخدمة تحت مظلته.
 
الدبلوماسية الاجتماعية في الأربعينية:
 
كان لمشاركة مختلف القوميات من دول العالم دور كبير في تذويب الخلافات والحساسيات المجتمعية بين القوميات والشعوب المختلفة. يمكن تسمية ذلك بـ "الدبلوماسية الاجتماعية" للزيارة الأربعينية، حيث ساهم محور التأخي والعوامل الإيجابية للزيارة في زرع المحبة بين الشعوب ونسيان بعض الحساسيات. وهذا يشابه دور الدبلوماسية السياسية في تذويب المشاكل بين الدول عبر الحوار والاعتدال، ولكنه يحدث هذه المرة في المجتمعات وبين الشعوب.
 
إن الزيارة الأربعينية ليست مجرد حدث سنوي عابر، بل هي مظهر جلي لهوية المشاركين فيها، ونموذج للإنسانية والمحبة والعطاء. وتُلاحظ فيها مشاهد من التواضع والعطاء لم تُرَ في مناسبات أخرى. وقد ساعد كل ذلك في تقريب وجهات النظر وتأليف القلوب، ليكون بمثابة عمل دبلوماسي، ولكن بصبغة مذهبية اجتماعية، يُسهم في التنافس الشريف ضمن "فوضى منظمة". فحب الحسين (ع) هو وسيلة السعداء، والذل في مدرسة الحسين الدولية هو أيقونة للعز والإباء. وكما قال الشاعر الشعبي العراقي: "كل الخدم تنهان، شفناها بالعين، إلا بكرامة تعيش، خدام الحسين".
الزيارة الأربعينية.. مدرسة دولية للكرم والعطاء والتآخي
 بقلم: الباحث الديني العراقي رضا محسن الحكيم
 
المصدر: الفرات نيوز
captcha