و"اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الأَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ الله أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ".
وفي أحد تصاريحه المُهِمَّة يكشف الإمام الحسين (ع) عن واحد من دوافعه للنهوض في وجه الطاغية يزيد فيقول: "ألا وإنَّ هؤُلاءِ قَد لَزِموا طاعَةَ الشَّيطانِ، وتَرَكوا طاعَةَ الرَّحمنِ، وأظهَرُوا الفَسادَ، وعَطَّلُوا الحُدودَ، وَاستَأثَروا بِالفَيءِ، وأحَلّوا حَرامَ اللّهِ، وحَرَّموا حَلالَهُ، وأنا أحَقُّ مَنْ غَيَّرَ".
إن إحدى أهم المهمات الملقاة على عاتق الحسين (ع) كإمام معصوم هی بيان الشريعة الإلهية، وحفظها، والذود عنها، وذلك من أوجب الواجبات عليه وعليه أن ينهض لهذا الواجب ولو كَلَّفَه ذلك أن يقتَل ويُستباح دمه وحُرمته، فحُرمة الشريعة أولى بالحفظ والصَّون، والذود عنها في الحقيقة ذود عن الإنسان ومصالحه، ودفع للضرر الحتمي عن المجتمع الإنساني، فإن الإنسان دون شريعة يعيش حياته خابطاً في ضلال وضياع، والمجتمع دون شريعة تنعدم فيه الحقوق، وتُهتك فيه الحُرمات، ولا تحترم فيه المواثيق والعهود، ويصعب فيه العيش، وتتحكم فيه الأهواء والرغبات، وتتقطع فيه الصِّلات، فيتراجع بدل أن يتقدم، وتضمر فيه الطاقات بدل أن تنمو، فالشريعة للمجتمع كالروح للإنسان، الشريعة هي التي تهبه الطاقة التي يحتاجها لتقدمه ونموِّه وتطوره، والشريعة للإنسان كالعقل فيه توجِّهه وتضبط حركته وتوجه طاقاته وتتحكَّم في انفعالاته.
ولا يختلف عاقلان في أن المُشَرِّع هو الله وحده، لأنه خالقه، كما هو خالق الكون الذي يعيش فيه، فهو خبير به محيط بقابلياته وقدراته وحاجاته، كما هو محيط بالكون من حوله، خبير بما يصلح عليه أمره، وبما يتأتَّى منه الفساد عليه، وقد يترك الرحمان الخبير الحكيم للإنسان مساحة فراغ محدودة يسُنُّ فيها القوانين المناسبة له انطلاقاً من القواعد الكبرى للشريعة. ولكن لا يُترك أمر التشريع كلياً للإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة، لأنه يظل قاصراً عن إدراك كُنه نفسه، وإدراك حاجاته، وإدراك ما ينفعه وما يضرّه في دنياه وفي آخرته.
لو تُرك أمر الشريعة للإنسان لرجع القهقرى في إنسانيته فضلا عن عيشه الفردي والاجتماعي كما يحصل اليوم في المجتمعات التي أخذت دور الله في التشريع فاستسلمت لأهوائها وشهواتها، إذ نراها تجعل من الشهوات والأهواء والنزوات القاعدة الكبرى التي تستند إليها في التقنين، حتى باتت معظم القوانين شهوانية تطلق العنان للشهوات، وتطلق سراح الغرائز والنزوات، وتسمح للفرد أن يصنع ما يشاء في نفسه حتى وإن كان في ذلك ضرر عظيم عليه، ومعلوم أن الشهوات طبعها التوَحُّشُ، إذا ما أطلق لها العنان تتحوَّل إلى قنابل موقوته تدمر كيان الإنسان ومجتمعه الإنساني، لأنها نَهِمَة مُتَطلِّبة لا ترضى بالقليل، كلما حصلت على شيء رغبت بالمزيد، وهي لجوج تريد الشيء في الحال. وهذا يُتعِبُ الإنسان ويُنهِكه، ويُهلِكه، ويتسبَّبُ له بشقاء مقيم.
إن الحزب السُّفياني الأُمَوي أحلَّ حرام الله، وحَرَّم حلال الله، انطلاقاً من موقفه من الدين، ولم يكن ذلك من انحراف ناتج عن شُبهة في فهم النصوص، بل كان من عناد ضد الدين، كان ينطلق وفق استراتيجية تقوم على ظاهر إسلامي يعطيهم شرعية لحكمهم، ويُسَهِّل لهم القبض على مقاليد السُّلطة، وباطن كافر منحرف يتجه بالناس إلى الانحراف ونسيان الشريعة بحيث يرتَدَّ المسلمون عن الدين. لذلك جاهر حكام بني سفيان وأمية بارتكاب الحرام كي يعتاد عليه الناس، والناس على دين ملوكها، هذا من جهة، ومنعوا الإنكار على (الخليفة) والخروج عليه من جهة أخرى وإن كان فاسقاً فاجراً ظالماً.
هنا كان على الحسين (ع) أن ينهض لحفظ شريعة الله، فهذا واجبه وعليه أن يؤديه ولو كانت الكلفة أن يُقتَل، وإن لم يكن معه أنصار يناصرونه، أو كانوا قِلَّة. فقعوده عن هذا الواجب سيعطي فرصة للمشروع السفياني الأموي، وسيجرئه على الإيغال أكثر في هدم الدين. وقد تحقق للحسين(ع) ما نهض من أجله، فقد استطاع بدمه أن يفضح المشروع السفياني، وأن يمنع من التلاعب بالشريعة.
الذي واجهه الحسين (ع) يتكرَّر في كل العصور، لكنه اليوم يحدث بطريقة فَظَّة تتجاوز كل المألوف البشري، وكل ما اتفق عليه العقلاء من مُسَلَّمات وحقائق ومعايير، المُسَلَّمة الوحيدة اليوم هي الشهوة، حتى وإن أدَّت إلى الشذوذ، وتغذية الشهوة هي المعيار للتقنين في العالم المتوحِّش الذي يُقَدِّم نفسه عالماً إنسانياً متقدِّماً في إنسانيته، فالشهوة نفسها وحش، والاستجابة لها تؤدي إلى التوحُّش، والتوحُّش يُنهِك المجتمع ويهلكه ويؤدي به إلى الاضمحلال.
إن ذلك يُلزمنا بواجب الدفاع عن شريعة الله وحلال الله وحرام الله، حِفظاً لبقائنا، لأن القوانين الشاذة التي يُرَوِّج لها الغرب المتوحِّش سيؤدي العمل بها إلى تهديد الوجود الإنساني برمته.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي