
"اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الأَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ الله أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ".
روى الطبري في تاريخه قال: ... وجاءَ شِمرٌ حَتّى وَقَفَ عَلى أصحابِ الحُسَينِ (ع)، فَقالَ: أينَ بَنو أُختِنا؟ فَخَرَجَ إلَيهِ العَبّاسُ وجَعفَرٌ وعُثمانُ بَنو عَلِيٍّ (ع)، فَقالوا لَهُ: ما لَكَ وما تُريدُ؟ قالَ: أنتُم يا بَني أختي آمِنونَ. قالَ لَهُ الفِتيَةُ: لَعَنَكَ اللّهُ ولَعَنَ أمانَكَ! لَئِن كُنتَ خالَنا. أتُؤمِنُنا وَابنُ رَسولِ اللّهِ (ص) لا أمانَ لَهُ؟!.
وروى مؤلف كتاب الفُتوح قال: أقبَلَ شِمرُ بنُ ذِي الجَوشَنِ حَتّى وَقَفَ عَلى مُعَسكَرِ الحُسَينِ (ع) فَنادى بِأَعلى صَوتِهِ: أينَ بَنو اُختِنا عَبدُ اللّهِ وجَعفَرٌ والعَبّاسُ بَنو عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ! فَقالَ الحُسَينُ (ع) لِإِخوَتِهِ: أجيبوهُ وإن كانَ فاسِقاً، فَإِنَّهُ مِن أخوالِكُم! فَنادَوهُ فَقالوا: ما شَأنُكَ وما تُريدُ؟ فَقالَ: يا بَني أُختي، أنتُم آمِنونَ، فَلا تَقتُلوا أنفُسَكُم مَعَ أخيكُمُ الحُسَينِ، وَالزَموا طاعَةَ أميرِ المُؤمِنينَ يَزيدَ بنِ مُعاوِيَةَ!
فَقالَ لَهُ العَبّاسُ بنُ عَلِيٍّ (ع): تَبّا لَكَ يا شِمرُ، ولَعَنَكَ اللّهُ، ولَعَنَ ما جِئتَ بِهِ مِن أمانِكَ هذا يا عَدُوَّ اللّهِ! أتَأمُرُنا أن نَدخُلَ في طاعَةِ العِنادِ ونَترُكَ نُصرَةَ أخينَا الحُسَينِ(ع)؟!.
وروى مؤلف كتاب الملهوف: أن العَبّاس (ع) قال: أتَأمُرُنا أن نَترُكَ أخانا وسَيِّدَنَا الحُسَينَ بنَ فاطِمَةَ ونَدخُلَ في طاعَةِ اللَّعناءِ أولادِ اللَّعناءِ؟!
محاولة خبيثة من خبيث قد خَبُثَ أصله ومعدنه، الشِّمرُ اللعين، للتفريق بين الحسين (ع) وأخوته، وموقف نبيل شجاع ينضح بالنُّبل والوفاء والوعي والبصيرة من العباس وأخوته.
الشمر اللعين المطرود من رحمة الله والملعون على لسان كل حُرٍّ أَبِيٍّ يحاول أن يستميل إليه العباسَ وأخوته معتمداً على عامل القرابة بينه وبينهم من جهة أمهم الشريفة الأبية، التي أخلصت للحسين ووفَّت الحُبَّ له والاهتمام به، وقدَّمت السؤال عنه عندما رجع موكب السبايا إلى المدينة قبل أن تسأل عن أبنائها الأربعة، وحزنت عليه أكثر من حُزنها عليهم، ورَبَّت أولادها وفي مقدمهم أبو الفضل العباس على الوفاء للحسين (ع) واحترامه، وأجلال مقامه، والذَّود عنه، وفدائه بأنفسهم، والموت بين يديه، وقد كان لها ما أرادت، وأينع في نفوسهم ما زرعت، فضرب العباس وأخوته أروع الأمثلة في الدفاع عن الحسين (ع) والفداء له بأنفسهم ومُهَجِهم، فهذا العباس (ع) يرمي الماء من يده وهو على العقمي عطشان ظمآن وأحوج ما يكون إلى شربة ماء، يرميه من يده ويقول: أأشرب الماء وأخي الحُسَين عطشاناً؟!، وعندما تُقطَع يمينه المُقَدَّسة يقول: واللهِ إن قطعتم يميني، إني أحامي أبداً عن ديني، وعن إمامٍ صادق اليقين، نجل النبي الطاهر الأمينِ.
ولعَلَّ هذا النُّبل والوفاء والإخلاص والفُتُوَّة في العباس وأخوته قد غاب عن الشِّمر اللعين، وطبيعي أن يغيب عنه وهو الوَضيع الخَؤون الذي لم يعرف النُّبل والوفاء والإخلاص والحَمِيَّة والشهامة والرجولة يوماً في حياته، فيظنَّ أنهم مثله، وأن في إمكانه أن يوقع بينهم وبين أخيهم الحسين، وسيدهم الحسين، وإمامهم الحُسين، وليس من عجَب في ذلك، فكل إناءٍ بما فيه ينضحُ، والمرء يرى الآخرين بحسب حاله كما يقول أمير المؤمنين (ع) فالفاسد يرى الناس فاسدين لأنه ينظر إليهم بحسبه هو، والخائن يرى الناس خَوَنة، والذي يسهل عليه أن يبيع دينه وأن يدعسَ على قِيَمِه يرى الناس كذلك، والشِّمرُ كذلك، وهو يحاول الساعة أن يستميل العباس وأخوته إليهم كي يبقى الحُسين (ع) وحيداً فريداً يسهُل عليهم أن يحتوشوه من الجولة الأولى.
ولعّلَّ الشِّمر اللعين يعرف مكانة الحسين (ع) عن العباس، ومكانة العباس عند الحُسين (ع) فالعباس لم يخرج مع الحسين (ع) بدافع الأخوة، بل خرج معه بدافع الاعتقاد بإمامته كما صَرَّح في غير موضع، كان يرى أخاه الحسين إماماً مُفتَرض الطاعة، وكان على يقين من حقانية نهضته الشريفة، فانطلق معه لهذا الواجب المقدس، وكان حامل لوائه، واللواء لا يُعطى إلا للأشجع والأثبت في الميدان. وكان الحُسين (ع) يرى في العباس وحده جيشاً كاملاً، وعِماداً يعتمد عليه في المُلمات، ويوكِل إليه إنجاز المهمَّات الأصعب، يدل على ذلك انكسار ظهره الشريف بشهادته.
لقد باءت محاولة الشِّمر الخبيث اللعين بالفَشَل، وكيف لا تخيب وهو يحاول مع معدن الوفاء والنخوة والحمية، والوَعي والبصيرة، إذ أجابوه جميعاً: *"لَعَنَكَ اللّهُ ولَعَنَ أمانَكَ! لَئِن كُنتَ خالَنا. أتُؤمِنُنا وَابنُ رَسولِ اللّهِ (ص) لا أمانَ لَهُ؟!"*. وعلى النقل الآخر أجابه العباس باسمهم جميعاً: *"أتَأمُرُنا أن نَترُكَ أخانا وسَيِّدَنَا الحُسَينَ بنَ فاطِمَةَ ونَدخُلَ في طاعَةِ اللَّعناءِ أولادِ اللَّعناءِ؟!"* فكيف يتخَلَّى أبو الفضل عن سَيِّده وإمامه الحسين ابن فاطمة؟! وكيف يدخل في طاعة اللُعَناء أولاد اللُعَناء؟! إن ذلك لا يكون من مثل العباس أبداً.
بقلم الكاتب والباحص اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي