ایکنا

IQNA

نهضة الحسين (ع)؛ مواقف وقِيَم / 8

الامام الحسين (ع) هو حافظ الشريعة

17:33 - July 27, 2023
رمز الخبر: 3492086
بيروت ـ إکنا: إن الامام الحسين (ع) هو حافظ الشريعة، وهو الذي يعزُّ عليه عَنَتُ الناس حتى في أحرج المواقف وأشدها، ولذلك يريد لهم الحلال، ويريد أن يمنعهم من الحرام.

"اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الأَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ الله أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ"
 
روى مؤلف كتاب (المطالب العالية) عن أبي يحيى، عن رجل من بني ضبّة قال: شَهِدتُ عَلِيّاً (ع) حينَ نَزَلَ كَربَلاءَ، فَانطَلَقَ، فَقامَ ناحِيَةً، فَأَومَأَ بِيَدِهِ، فَقالَ: مُناخُ رِكابِهِم أمامَهُ، ومَوضِعُ رِحالِهِم عَن يَسارِهِ، فَضَرَبَ بِيَدَيهِ الأَرضَ، فَأَخَذَ مِنَ الأَرضِ قَبضَةً، فَشَمَّها فَقالَ: واحَبَّذَا الدِّماءُ يُسفَكُ فيهِ. 

ثُمَّ جاءَ الحُسَينُ (ع) فَنَزَلَ كَربَلاءَ. قالَ الضَّبِّيُّ: فَكُنتُ فِي الخَيلِ الَّتي بَعَثَهَا ابنُ زِيادٍ إلَى الحُسَينِ (ع) فَلَمّا قَدِمْتُ فَكَأَنَّما نَظَرتُ إلى‏ مَقامِ عَلِيٍّ (ع) وإشارَتِهِ بِيَدِهِ، فَقَلَبتُ فَرَسي، ثُمَّ انصَرَفتُ إلَى الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ (ع) فَسَلَّمتُ عَلَيهِ، وقُلتُ لَهُ: إنَّ أباكَ كانَ أعلَمَ النّاسِ، وإنّي شَهِدتُهُ في زَمَنِ كَذا وكَذا قالَ: كَذا وكَذا، وإنَّكَ -وَاللَّهِ- لَمَقتولٌ السّاعَةَ. 

قالَ (ع): فَما تُريدُ أن تَصنَعَ أنتَ؟ أتَلحَقُ بِنا، أم تَلحَقُ بِأَهلِكَ؟

قُلتُ: وَاللَّهِ، إنَّ عَلَيَّ لَدَيناً، وإنَّ لي لَعِيالاً، وما أظُنُّ إلّا سَأَلحَقُ بِأَهلي. 

قالَ (ع): أَمّا لا، فَخُذْ مِن هذَا المالِ حاجَتَكَ -وإذا مالٌ مَوضوعٌ بَينَ يَدَيهِ- قَبلَ أن يَحرُمَ عَلَيكَ، ثُمَّ النَّجاءَ، فَوَاللَّهِ، لا يَسمَعُ الدّاعِيَةَ أحَدٌ ولا يَرَى البارِقَةَ أحَدٌ ولا يُعينُنا، إلّا كانَ مَلعوناً عَلى‏ لِسانِ مُحَمَّدٍ (ص).

قالَ: قُلتُ: وَاللَّهِ، لا أجمَعُ اليَومَ أمرَينِ: آخُذُ مالَكَ، وأخذُلُكَ؟!. فَانصَرَفَ وتَرَكَهُ.

هذا نموذج آخر لصنف من الناس لقيَهم الحسين (ع) في نهضته المباركة، وقد كنت في المقالات السابقة قد عرضت لنماذج أخرى من الناس. تتفق في شيء، وتختلف في شيء آخر من موقفها من الحُسَين (ع).

تتفق جميع تلك النماذج في معرفة مقام الحسين (ع) والإقرار بتقدَّمه على سائر أفراد الأمة، بل الإقرار بإمامته، وأنه إمام حق، وأنه يدعو إلى الحق، وأن نهضته نهضة حق، وتتفق فيما بينها على طغيان يزيد وظلمه وفسقه وفجوره.

وتختلف في استجابتها لاستنصار الحسين (ع) منها، فمنهم من يخرج من الكوفة كراهية أن يلقاه، ومنهم من يبرِّر خذلانه للحسين (ع) بقلة الناصر له واجتماع الناس عليه، ومنهم من يبرر تخاذله بأن نفسه لا تسمح بالموت، ومنهم من يعرض على الحسين (ع) أن يأخذ فرسه التي لا تعدوها فرس.

النموذج الذي أعرض له في هذه المقالة (الضَّبِّي) كان من أصحاب الإمام أمير المؤمنين (ع) وقد شَهِده في كربلاء يوم مَرَّ فيها يضرب بيديه الأرض، ويأخذ قبضة من الترب فيشمها، وسمعه يتأوَّه للدماء الطاهرة الزكية التي ستُسفَك فيها. 

فالأمر من هذه الجهة واضح (للضَّبِّيِّ) لا لبس فيه ولا تشوش، ثم هو ذا يخرج في جيش عمر بن سعد فلما وصل إلى كربلاء ووجد الحسين (ع) وصحبه، تذكَّرَ ما شهده وسَمِعَه من أمير المؤمنين (ع) فيصحو ضميره، ويغير موقفه، فيترك جيش بن سعد وينتقل إلى الحسين (ع) ولكنه مقتصد في موقفه الجديد، لا يذهب فيه إلى حيث يجب أن يذهب، إنما يأتي الحسين ليُخبره بما سيحدث له، وأنه مقتول لا محالة، مستنداً في ذلك إلى يقينه بصدق أمير المؤمنين (ع) وأنه لا ينطق عن الهوى، فما نبّأهم به كائن لا محالة، لذا يأتي الحسين (ع) مُشفقاً وناصحاً. ويكتفي بذلك، يعتبر أنه أدّى واجبه تجاه ابن بنت رسول الله (ص). وما أدى واجبه!، فواجبه لا يقتصر على الإنباء والنُّصح، واجبه أن ينصر الحسين، أن يُناضل أعداء الدين تحت قيادته، أن يشهد للحق بالفعل لا بالقول، وأن يمهر شهادته بدمه بين يدي إمام العصر وحجة الزمان.

ولقد كان الحسين (ع) يعلم ما أنبأه به، يعلم أنه مقتول في كربلاء وقد صرَّح بذلك أكثر من مرة، وفي الكثير من المواضع، فلم ينبئه (الضَّبِيُّ) بجديد.

وقد كان (ع) ينتظر من الرجل أن يذهب بعيداً في انحيازه إلى جبهة الحق، لذلك نراه يسأله: فَما تُريدُ أن تَصنَعَ أنتَ؟ أتَلحَقُ بِنا، أم تَلحَقُ بِأَهلِكَ؟، إن سؤال الإمام (ع) يفيد أنه كان موقٍناً من أن الرجل لن يرجع إلى جيش عمر بن سعد، ولن يكون في جبهة الظلم والطغيان، لكنه لا يعلم إن كان الرجل قد اختار الانضمام إليه في نهضته، لذلك يسأله: أتَلحَقُ بِنا، أم تَلحَقُ بِأَهلِكَ؟. فيختار الرجل أن يلحق بأهله، ويبرِّرُ خياره هذا بوجود عيال له، ودَينٍ في ذمته. 

في هذه اللحظة يبادر الحُسين (ع) إلى موقف في أعلى دراجات النُبْلِ والسُّمُوِّ والرحمة والرأفة والتكافل الاجتماعي رغم حاجته الماسَّة إلى نُصرة الرجل له، فيضع مالاً وفيراً بين يديه ويقول له: خُذ حاجتك منه قبل أن يحرم عليك، يُقدَّمه إليه عن طِيب نفسٍ، فإن أخذه الرجل فسيأخ
 
ذه حلالاً طًيَّباً، وإن لم يأخذه الآن فقد تضغط عليه الحاجة فيأخذه حراماً وسلباً بعد مقتل الحسين (ع).

هنا يرسم الحسين (ع) صورة مُشرقة عن رحمته ورأفته، فهو إمام الحلال، وهو حافظ الشريعة، وهو الذي يعزُّ عليه عَنَتُ الناس حتى في أحرج المواقف وأشدها، ولذلك يريد لهم الحلال، ويريد أن يمنعهم من الحرام. وإن لم يكن للحسين من موقف يدل على نُبله ورأفته سوى هذا لكفاه شرفاً وكرامة، ولكفى أن ينحاز الرجل إليه مطلقاً وأن ينصره ويقاتل بين يديه.

لكن الرجل يأبى أن يُسجِّل عليه التاريخين عملين مخزيين، أن يأخذ المال ممن يجب عليه أن ينصره، لعلمه بحاجته إلى الناصر، وأن يخذل الإمام وخذلانه موبقة كبرى، فيأبى الأخذ ويختار الخذلان ويمضي، ومثله كثير في أيامنا. 

بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
 
captcha