"اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الأَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ الله أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ".
وخطأ جسيم نقع فيه عندما ننسب جريمة قتل الحُسين (ع) إلى شيعته، فإن في ذلك تضييعاً للحقيقة، وتبرئة للحزب السفياني الأموي، وفيه ترديد لمقولة السلطة الظالمة المتمثلة بيزيد وحزبه وأتباعه والمدافعين عنه إلى يومنا هذا.
الحَقُّ: أن الحزب السفياني الأموي هو المسؤول عن قتل الحسين (ع) وهو الذي أخذ من قبل قرار قتل الإمام أمير المؤمنين(ع) ثم الإمام الحسن المُجْتبى (ع) إنفاذا لما كان يضمره من عداوة مستحكمة للدين ولرسول الله (ص) فالحزب السفياني الأموي لم يُسلم يوماً واحداً بل ركب موجة الدين الجديد ليكيد له من داخله بعد أن عجز عن مواجهة النبي (ص).
إن معظم أهل الكوفة لم يكونوا من الشيعة كما سيأتي، وكثير ممن خرج منهم لقتال الحسين كان كارها ذلك، حتى عمر بن سعد حاول إلى النهاية أن يتجنَّب قتله لكن إصرار عُبَيد الله بن زياد على قتله دفعه في النهاية إلى تنفيذ إرادته طمعاً بملك الرَّيِّ. وهذا لا يبرر له ما جناه، ولكنه يُضيء على الرأي الذي نتبناه، على أنه يجب أن يكون معلوما للقارئ الكريم أن عمر بن سعد لم يكن من شيعة الإمام أمير المؤمنين (ع) وكذلك شِبْثَ بنِ رَبْعِيٍّ وَحُصَيْنَ بنِ نُمَيْرٍ وَنَحُوِهِمْ، بل النصوص تدل على أنهم كانوا من جمهور المسلمين وحسب.
إن أهل الكوفة وإن كانوا الأداة المباشرة التي نَفَّذَت الجريمة لكن القرار كان سفيانياً أموياً يزيدياً بامتياز، وقد أُرغِمَ معظمهم على ذلك، وهذا ما يُفَسِّر قول الشاعر الفرزدق للإمام (ع): قلوب الناس معك، ولكن سيوفهم عليك. كما يدلُّ على ذلك الخطاب الذي ألقاه الإمام (ع) يوم العاشر من المحرم متوجهاً به إلى الجموع التي احتشدت لقتاله حيث جاء فيه: "وَيْحَكُمْ يَا شِيْعَةِ آَلِ أَبِي سُفْيَان. إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِيْنٌ وَكُنْتُمْ لَا تَخَافُوْنَ يَوْمَ المَعَادِ فَكُوْنُوا أَحْرَارَاً فِيْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُبَاً كَمَا تَزْعُمُوْنَ" ولا شك في أن الإمام (ع) أعرف بمن خرج إلى قتاله، وهو لا يُطلِق عليهم وصف (شيعة آل أبي سفيان) جزافاً، أو من قلة دراية بهم.
كما يدل على ما نتبنَّاه جواب القوم للإمام الحسين بعد أن ناشدهم وخطب فيهم وعرَّفهم من هو، فأقرّوا أنهم يعرفون نسبه وحسبه وفضيلته وأضافوا: (إِنَّا نَقْتُلُكَ بُغْضَاً لِأَبِيْكَ). فكيف يكون هؤلاء شيعة الحسين (ع)، بل إن بعضهم أجاب بريراً رضوان الله عليه حين أنكر عليهم منعهم الماء عن الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه فقالوا: يَا بُرَيرُ قَدْ أَكْثَرْتَ الكَلَامَ فَاكْفُفْ. وَاللهِ لَيَعْطَشَنَّ الحُسَيْنُ كَمَا عَطِشَ مَنْ كَانَ قَبْلُهُ. وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانٍ. فالذي يمنع الماء عن الحسين (ع) انتقاماً لعُثمان كيف يكون من شيعة الحسين؟!
بل يمكننا القول إن الذين قاتلوا الحسين (ع) لم يكن فيهم شيعي قطُّ، فشيعته (ع) إما سُجنوا في الكوفة كالمختار الثقفي وسواه، أو مُنِعوا من الخروج إليه، أو قُتِلوا. فقد كتب المؤرِّخ ابن كثير في (البداية والنهاية) بأن الذين خرجوا مع الإمام الحسين (ع) في أول أمره ستون رجلاً فقط من أهل الكوفة وكانوا من شيعته وقُتِلوا معه. فتوصيفه لهم بأنهم من شيعته ينفي التشيُّع عن سواهم.
أضف إلى ما سبق أن الكوفة لم تكن كلها شيعية حتى في زمان حكومة الإمام أمير المؤمنين (ع) بل كان الشيعة يمثِّلون نسبة قليلة من ساكنيها، وبعد شهادة الإمام (ع) زَجَّ زياد بن أبيه اثنا عشر ألفاً منهم في السُّجون، وأعدمَ عدداً منهم، وأبعَدَ عدداً آخر إلى خُراسان والموصل، وشَرَّد جمعاً آخر، وهناك قسم كبير قد حِيلَ بينهم وبين الحسين (ع) مثل بني غاضرة، فلم يصل إلى الحسين إلا القليل الذي استُشهد معه. وقد روى الهيثميُّ في مجمع الزوائد أن زياد بن أبيه كان يتتبع الشيعة في الكوفة فيقتلهم، فبلغ ذلك الإمام الحسن المُجتبى (ع) فدعا عليه. ونقل ذلك الطبراني في المُعجَم الكبير.
وقد صرَّح ابن تيمية في كتابه (مِنهاج السُّنَّة النبوية) بأن قاتلي الحُسين (ع) هم من النَّواصب، وصرَّح في موضع آخر من كتابه بأن الكوفة لم تكن كلها موالية لِعَلِيّ (ع) فقال: وكانت الكوفة بها قوم من الشيعة المُنتصرين للحسين، وكان رأسهم المختار بن أبي عُبَيد الكذاب، وقوم من الناصِبَة المُبغضين لعَليٍّ رضي الله عنه وأولاده، ومنهم الحجَّاج بن يوسف الثقفي.
أقول: حاشا للمختار أن يكون كذَّاباً كما وصفه ابن تيمية الذي لم يكن مُنصفاً يوماً في آرائه مع شيعة الإمام أمير المؤمنين (ع)، وإنما أوردت كلامه للاستشهاد به على أن الذين قاتلوا الحسين (ع) لم يكونوا من الشيعة، وإن كان منهم من يُحبُّ الحسين فلم يكن ذلك ليتجاوز به إلى الانخراط معه في نهضته للأسباب التي تقدمت أعلاه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي