
"اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِاللهِ وَعَلَى الأَرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ الله أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ" .
روى الطبَرِيُّ في تاريخه عن أبي مخنفٍ قال: حدّثني جميل بن مرثد: مَضَى الحُسَينُ (ع) حَتَّى انتَهى إلى قَصرِ بَني مُقاتِلٍ، فَنَزَلَ بِهِ، فَإِذا هُوَ بِفُسطاطٍ مَضروب.
قالَ أبو مِخنَفٍ: حَدَّثَنِي المُجالِدُ بنُ سَعيدٍ، عَن عامِرٍ الشَّعبِيِّ، أنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ (ع) قالَ: لِمَن هذَا الفُسطاطُ؟ فَقيلَ: لِعُبَيدِ اللّهِ بنِ الحُرِّ الجُعفِيِّ، قالَ: اُدعوهُ لي، وبَعَثَ إلَيهِ، فَلَمّا أتاهُ الرَّسولُ، قالَ: هذَا الحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ (ع) يَدعوكَ .
فَقالَ عُبَيدُ اللّهِ بنُ الحُرِّ: إنّا للّهِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ! وَاللّهِ ما خَرَجتُ مِنَ الكوفَةِ إلّا كَراهَةَ أن يَدخُلَهَا الحُسَينُ وأنا بِها، وَاللّهِ ما أُريدُ أنْ أراهُ ولا يَراني، فَأَتاهُ الرَّسولُ فَأَخبَرَهُ، فَأَخَذَ الحُسَينُ (ع) نَعلَيهِ فَانتَعَلَ، ثُمَّ قامَ فَجاءَهُ حَتّى دَخَلَ عَلَيهِ، فَسَلَّمَ وجَلَسَ، ثُمَّ دَعاهُ إلَى الخُروجِ مَعَهُ، فَأَعاد إلَيهِ ابنُ الحُرِّ تِلكَ المَقالَةَ .
فَقالَ: فَإِن لا تَنصُرنا فَاتَّقِ اللّهَ أن تَكونَ مِمَّن يُقاتِلُنا، فَوَاللّهِ لا يَسمَعُ وَاعِيَتَنا أحَدٌ ثُمَّ لا يَنصُرُنا إلّا هَلَكَ. قالَ: أمّا هذا فَلا يَكونُ أبَدا إن شاءَ اللّهُ. ثُمَّ قامَ الحُسَينُ (ع) مِن عِندِهِ حَتّى دَخَلَ رَحلَهُ.
ورُوِيَ أن عُبيد الله قال للحسين (ع): وَاللَّهِ إنّي لَأَعلَمُ أنَّ مَن شايَعَكَ كانَ السَّعيدَ فِي الآخِرَةِ، ولكِن ما عَسى أن اُغنِيَ عَنكَ، ولَم اُخُلِّف لَكَ بِالكوفَةِ ناصِراً؟! فَأنشُدُكَ اللَّهَ أن تَحمِلَني عَلى هذِهِ الخُطَّةِ؛ فَإِنَّ نَفسي لَم تَسمَح بَعدُ بِالمَوتِ، ولكِن فَرَسي هذِهِ المُلحِقَةُ، وَاللَّهِ ما طَلَبتُ عَلَيها شَيئاً قَطُّ إلّا لَحِقتُهُ، ولا طَلَبَني -وأنَا عَلَيها- أحَدٌ قَطُّ إلّا سَبَقتُهُ، فَخُذها فَهِيَ لَكَ. فقالَ الحُسَينُ (ع): أمّا إذا رَغِبتَ بِنَفسِكَ عَنّا، فَلا حاجَةَ لَنا إلى فَرَسِكَ.
موقفان في هذه الواقعة، أحدهما يثير في العقل العجب، وفي النفس الألم، وهو موقف عُبيد الله بن الحُرِّ، وموقف آخر وهو موقف الحسين (ع) يرسم لنا منهجاً للتعامل مع أمثال عُبيد الله، وهم كُثُرٌ يتكررون في كل زمان ومكان.
عبَيدُ الله بن الحر يُحِبُّ الحسين(ع)، ويعلم أنه على الحق، وأنه إمام الحق، ويعلم أنه حجة الله في الأرض، ويُقِرُّ بإمامته، ويُقِرُّ بأن من شايع الحُسين (ع) واتبعه كان سعيداً في الدنيا والآخرة.
وذلك يقتضي منه أن يُطيعه فيما يأمره به، وأن ينصره ويدافع عنه، فالحجة قد ثبتت عليه بإقراره، والله تعالى سائله عن خذلانه لإمامه.
عبيد الله يُدرك هذا، ولذلك يخرج من الكوفة مخافة أن يلقى الحسين (ع) فهو يفرُّ من واجبه، ويفرُّ من إمامه، ولكن يشاء الله أن يمرَّ عليه الحسين (ع) وهو هاربٌ فارٌّ مُوَلٍّ لدُبُرِه، في هذه اللحظة لا يرجع إلى الموقف الذي ينبغي أن يقفه ولا يختار ما يجب أن يختاره لنفسه من خيار تاريخي يُبقيه عَلماً من أعلام التاريخ بل نراه يُمعِن في هروبه، فينطلق للتبرير الأجوف لموقفه بأن نفسه لا تسمح بالموت، كأنه يضمن لنفسه الخلود إن خذل إمامه، رغم أنه على يقين من أنه ميِّتُ لا محالة. خوفه من الموت يدفعه إلى خذلان إمامه، ويدفعه إلى خسارته شرف الشهادة بين يديه، ولو أنه استجاب لاستنصار إمامه لخلدته الشهادة بين يديه، وخلَّدت ذكره في الناس، وسطرت اسمه في سِجِلِّ الأحرار الأبرار.
هو ذا يتخلَّى عن فرسه النجيبة للحسين، يحسب أن ذلك يُعَوِّضُ فراره، لكن ذلك لا يكون، فالحسين (ع) يريده بذاته، اللحظة الراهنة تحتاجه شخصياً ولا تحتاج إلى فرسه، اللحظة تحتاج إلى موقف تاريخي منه، الموقف هو الذي يؤثر الآن لا الفرس، وهو لم يكن على مستوى اللحظة. لذلك خَسر وكانت خسارته عظيمة فادحة.
والأشنع من ذلك تبريره موقفه بأنه لن يُغني عن الحسين شيئاً، وأنه لم يجد ناصراً للحسين (ع) في الكوفة، فهو يقول له: أنصرك إن وجدت لك ناصراً، فكيف يستقيم هذا الموقف من رجل يؤمن أن من شايع الحسين (ع) كان سعيداً في الآخرة.؟! ما قيمة نصره للحسين إن كان معه أنصار؟!، النُّصرة إنما تكون وقت الحاجة إليها، هنا تكون الشهامة والنُّبل وصِدق الولاء، أما حين تنعدم الحاجة إليها فتكون النصرة ركوباً للمَوجة، وطلباً للنفع والغنيمة.
فأما الحسينُ (ع) فهو رحيم في تلك اللحظة الحرجة، يتفهم موقفه، ولا يكلفه فوق ما يُطيق، ولا يُجبره على اتخاذ الخيار الذي يفرضه عليه إيمانه بإمامته، فلا يقبل منه فرسه، إن رغب عبيد الله بنفسه عن الحسين (ع) ثم يُحَذِّره أن يكون مع الطغاة عليه، فيقول: "فَإِن لا تَنصُرنا فَاتَّقِ اللّهَ أن تَكونَ مِمَّن يُقاتِلُنا". فمنطق عبيد الله يقتضي هذا التحذير من الحسين (ع) له، لأنه منطق الانحياز إلى الكثرة ولو كانت على الباطل والظلم، ولو كانت على خلاف رأيه وعقيدته.
إن منطق عبيد الله بن الحُرِّ يتكرر في كل زمان، كثير من الناس والجماعات يعلمون خلاف قناعاتهم الفكرية والإيمانية، يخشون كلفة الانتصار لقضايا أمتهم، يقولون للأحرار نحن معكم إن كنتم أقوياء وكان لكم أنصار، وهذا موقف متخاذل، وفيه خذلان للحق ونُصرة للباطل، والمطلوب من هؤلاء أن لا ينضموا إلى جبهة الباطل إن لم يقووا على نُصرة جبهة الحق، وأن لا يكونوا بيادق بأيدي الطغاة، وأبواقاً لهم تثير الضعف في الأمَّة.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي