ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ تَكَثَّرَ بِنَفْسِهِ قَلَّ

22:35 - November 20, 2025
رمز الخبر: 3502511
بيروت ـ إکنا: إنّ الحضارات لا تنهض بعبقرية فردٍ واحدٍ مكتفٍ بذاته، بل بتكامل الجهود وتبادل العقول. ومن ثمّ كانت المجتمعات التي تشجّع الحوار والتشاور والاعتراف بالآخر أكثر ازدهاراً من تلك التي يتضخّم فيها الأنا الفردية. 

رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ تَكَثَّرَ بِنَفْسِهِ قَلَّ".
 
معادلةٌ أخرى يقرّرها الإمام أمير المؤمنين (ع) صاغها ببضع كلمات، لكنها ــ على الرغم من وجازتها ــ تفكّك عقدةً كبيرةً في النفس البشرية؛ وهي ذلك الوهم الذي يسيطر على الإنسان، فيشعر معه أنه مكتفٍ بنفسه، قادرٌ على ما يشاء من أموره، وأنّ الكلّ بحاجةٍ إليه، أمّا هو فلا يحتاج إلى أحدٍ سواه، فيتعالى على الناس ويتعاظم عليهم، بل قد يصل به الأمر إلى التعالي على الله تعالى والعياذ بالله.

لكنّ الحقيقة غير ذلك تماماً؛ فإنّ الإنسان مهما بلغ من القدرة والقوة، ومهما حاز من الإمكانات، وحتى لو امتلأت خزائنه بالكنوز، فإنه يظلّ موسوماً بالفقر والحاجة، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. ويبقى محتاجاً إلى الله تعالى في كلّ آنٍ من آناء ليله ونهاره، يستمدّ منه الحياة والبقاء، ويستمدّ منه طاقته وقدرته، ويستمدّ منه الرزق والخير. وفي الوقت عينه لا يمكنه أن يستغني عن الناس بحالٍ من الأحوال، لعجزه عن توفير جميع حاجاته الضرورية وغير الضرورية إلا بمساعدة الآخرين.
 
إنّ الذي يغفل عن هذه الحقيقة، فيُوهِم نفسه أنه كثير: كثيرُ القدرة، كثيرُ القوة، كثيرُ الثراء، مكتفٍ ذاتياً من كلّ شيء، ليس لأحدٍ عليه فضلٌ أو نفع، ولا حاجةَ به إلى أحد، فمصيره القِلّةُ والافتقارُ والحاجة؛ إذ إنه يزهد بالناس، وينفِر الناسُ منه، فيجد نفسه وحيداً فريداً لا أحد يعبأ به.
 
حين يُعظّم الإنسانُ ذاته ويكتفي بها يَضمر ويضيع، وحين يغترّ بنفسه ويحسب أنه وحده الذي يملك الحقّ والصواب والرأي السديد، إنما يسير في طريقٍ ضيّقٍ يُفضي إلى العزلة الفكرية والنفسية، وينتهي به الحال إلى وحشةٍ قاتلة.

أمّا الذي يُدرك أنه محتاجٌ إلى الآخرين كما يحتاج الآخرون إليه، وأنّ كلّ واحدٍ من البشر لديه ما يقدّمه للآخرين، ولدى الآخرين ما يعجز هو عن توفيره لنفسه، وأن العقل مهما بلغ يحتاج إلى عقولٍ أخرى تُكمّله، وأنّ الاستفادة من عقول الناس وتجاربهم وخبراتهم وقدراتهم وميزاتهم تتطلّب التواصل والتعاون معهم، فإنه بذلك يتكثّر بغيره فيعظُم، إذ يضمّ قوّتهم إلى قوّته، وخبرتهم إلى خبرته، ومعرفتهم إلى معرفته.
 
وهذا بالضبط ما نراه واضحاً في تجارب المؤسسات والشركات الكبرى التي تستقطب الطاقات الشابة والذكية من مختلف أنحاء العالم، وتُغريها بأجورٍ عالية، فتستفيد منها لمراكمة المزيد من النجاحات، والمزيد من الأموال، والمزيد من التأثير في الساحات المحلية والإقليمية والدولية.
 
إذن: الشخص الذي يتكثّر بنفسه يعيش وهم التفوّق؛ يظنّ أنه أقدر من الجميع وأعلم من الجميع، فيُغلق عينيه عن رؤية الناس، ويصمّ أذنيه عن نصحهم، والنتيجة: يضمر فكره ويضيع توازنه.
 
ولذلك عَدَّ علماءُ الأخلاقِ العُجبَ من أعظم الآفات الأخلاقية، ومن أكثرها خطراً بما ينتج عنها من آثارٍ على الشخص؛ إذ يمنعه من تهذيب ذاته وتطويرها وتنمية فضائلها، ويُفسد علاقته بالناس، حيث يستكبر عليهم ويستغني عن آرائهم السديدة الرشيدة.
 
وهنا يظهر وجهٌ بديعٌ من المعادلة: فالتكثّر بالنفس يُنتج القِلّة، لأنّ النفس المنغلقة تُنكِر الحاجة، ومن أنكر حاجته إلى الآخرين أغلق على نفسه باب الاستفادة ممّا لدى الآخرين.
 
وما أكثر ما نرى من ذلك في حياتنا اليوم؛ فكم من إنسانٍ في موقع القيادة في السياسة أو الفكر أو العمل ظنّ أن رأيه لا يُخطئ، وأنّ تجاربه تُغنيه عن استشارة الآخرين، فكان فشله نتيجةَ غروره لا نقصِ علمه! وكم من مثقّفٍ استكبر عن الإصغاء لغيره، فصار فكره يدور حول نفسه حتى تآكل وتراجع في وقتٍ تقدّم فيه سواه!
 
إنّ الحضارات لا تنهض بعبقرية فردٍ واحدٍ مكتفٍ بذاته، بل بتكامل الجهود وتبادل العقول. ومن ثمّ كانت المجتمعات التي تشجّع الحوار والتشاور والاعتراف بالآخر أكثر ازدهاراً من تلك التي يتضخّم فيها الأنا الفردية. 

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha