
وروِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "عَلَيْكَ بِالسَّعْيِ وَلَيْسَ عَلَيْكَ بِالنُّجْحِ".
السَّعي ثم السَّعي ثم السَّعي فما خُلِقنا في هذه الحياة التي قد تطول وقد تقصُر إلا لنسعى، نسعى إلى غاياتنا الدُّنيا من علم، ومعرفة، ورزق، ومالٍ، وحاجات مختلفة، ونسعى إلى غاياتنا العُليا من تكامل أخلاقي وإنساني، ومعرفة لله الذي خلقنا وخلق لنا جميع ما في الدنيا، وتقرُّب إليه بأنواع القُرُبات، والباقيات الصالحات، ونسعى للفوز بسعادة الآخرة حيث دار القرار.
ولا يمكننا الحصول على ما نرغب به، وما نرجوه، وما تطمح نفوسنا إليه من أمور الدنيا والآخرة إلا بالسَّعي والكَدِّ والعمل والجِدِّ، قال تعالى: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿40﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴿41﴾ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ"﴿النجم/ 42﴾.
فما يكون لنا إلا سعينا الذي سعينا، وعملنا الذي عملنا، ولا يُحسَبُ علينا إِلَّاه، وهذه الحياة التي وُهِبَت لنا هي الفرصة لنعمل ونسعى، فإذا متنا ذهبت الفرصة وبقي ما سَعينا فيه وعَملنا، بقي مذخوراً لنا عند الله في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويوم نُعرَض على الله حين نُحشَر للحساب بين يديه نجد سَعيَنا نفسه ماثلاً أمام أعيننا، متجسداً ثواباً وأجراً، وجنانا عالية، وحدائق ذات بهجة، وارفة الظلال، يانعة الثمار.
وقبل ذلك لا بُدَّ وأن نرى أثر سعينا في الدنيا، صَلاحاً وفلاحاً، وبناءً وإعماراً، وعلماً ومعرفة، ونُمُوّاً وتطوّراً، وازدهاراً وتقدُّماً، وأهدافاً تتحقق، ونتائج تُحْصَد.
وإذا فالحياة سَعيٌ، سَعيٌ كلها، وهل رأيتَ كائناً حًياً لا يسعى؟! بل كل ما في أبداننا يسعى، يقوم بدوره المرسوم، ويؤدي وظيفته المطلوبة، ننام وخلايا أبداننا تسعى، وننام والدم فينا يسعى، وننام وقلوبنا تنبض والنبض في حقيقته سعي، وننام ونفوسنا تسعى في عوالم لا يعلمها إلا الله، فهل يُعقَل أن نَدَعَ السَّعي ونختار القُعود؟!وكيف نختار القُعود والسَّعي واجب؟! وهل نحصل على شيء من دونه؟! إن الله تعالى أمرنا بالسعي وجعله شرطاً ضرورياً لتلَقّي فيضه ورحمته وبركته، فمن سَعى وصل أو أوشك أن يَصِل.
ثم إن الإمام أمير المؤمنين (ع) ينبهنا إلى أمر هام جداً وهو: ألا نربط السَّعي بالنجاح، فالسَّعي واجب ومَقدور لنا، وبكلمة أخرى: السعي فعل اختياري نملكه، أما النجاح فأمر لا نملكه، فقد نسعى وننجح، وقد نسعى ولا ننجح، والنجاح والفشل لكل منهما أسباب، فإن تهيّأت كل أسباب النجاح وأينعت ظروفه نجحنا، وإن لم تتهيّأ أخفقنا. ولكن ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من السَّعي والعمل.
إذا جعلنا النجاح الكامل شرطاً لمباشرة السَّعي فإننا لن نسعى أبداً، إذ لا أحد منا يضمن النجاح، لكن لا أحد يمكنه أن يقطع بالفشل كذلك، بل إن توقُّع النجاح أمر عقلائي إذا ما توفَّرت الأسباب المطلوبة. وهذا يدعونا إلى السَّعي، وبذل الجهد المطلوب، فإن تحقَّقَ لنا ما نريد فبها ونِعْمَت، وإلّا نكون قد قُمنا بما علينا.
وهنا أمر أُلفِت النظر إليه، وهو مُهِم للغاية، ويعني كل مُؤمِن بالله وحاكميته على هذا الوجود ومالكيته لكل الأسباب، إن واحداً من أهم أسباب نجاح السَّعي أن نتقرَّب بما نسعى ونعمل إلى الله تعالى، إن تقرّبنا هو في الحقيقة تمليك عملنا لله، أي أننا نقول لله هذا العمل لك أنت. وما يملكه الله يُهيئ له أسبابَه ما عَلِمنا منها وما لم نعلم، والتجربة تشهد لذلك.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: