
رُوِيَ عن
الإمام علِيّ(ع) أنه قال: "عَلَيْكَ بِالْعَدْلِ فِي الْعَدُوِّ وَالصَّديقِ".
العدل: وضع الشيء في مواضعه، وإعطاء كُلِّ ذي حَقٍّ ما يستحق، يقابله الظلم وهو: وضع الشيء في غير مواضعه، وعدم إعطاء الحق لصاحبه، أو إعطائه أقل مِمّا يستحق. والعدل ممدوح، والظلم مذموم، والأول حَسَنٌ بحكم العقل وواجب بحكم الشرع، والثاني قبيح بحكم العقل وحرام بحكم الشرع.
ومُحال أن تقوم الحياة الاجتماعية على الظلم، فكل ما يتأسس على الظلم محكوم بالفوضى والاضطراب، ومصيره الحَتمي هو الزوال والبَوار والدّمار، فلا تستقَرُّ الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية إلا بالعدل والقسط والإنصاف، ولذلك جعل الله إقامة العدل والقسط الهدف الرئيس للنبوات والرسالات قال تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..."﴿الحديد/ 25﴾.
فالعدل روح الوجود، ووتَدُ الكون، وقاعدة الحياة، به قامت السماوات والأرض، وهو ميزان الله في الأرض، وقوام الدين والدنيا والآخرة، وسبب صلاح العباد والبلاد، به يُؤْخَذُ للضعيف حَقُّه، ويُنْصَفُ المظلومُ مِمَّن ظلمه، ويُمَكَّن صاحب الحقِّ من الوصول إلى حَقِّه، وهو من أهم القيم في عقيدة الإسلام بعد قيمة التوحيد، فلا تستقيم العقيدة دون الإيمان بالعدل والأخذ والعمل به، ولا يستقيم التوحيد ولا يثمر ثماره العملية إلا به، فإن التوحيد عدل بذاته، كما أن الشِّرك ظلم وجَور وتَعَسُّف وضَلال.
والعدل قيمة مطلقة لا تقييد لها بزمان ولا مكان، ولا بجنس ولا بنَوع ولا بلَون، ولا يقتصر على صعيد واحد، بل يشمل السلوك الإنساني كله: في الفكر والعقيدة، وفي القول والعمل، ومع الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والقريب والبعيد، والموافق والمخالف، والصديق والعدو، والغني والفقير، بهذا يحكم العقل، وبهذا يأمر الدين، قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا"﴿النساء/ 58﴾ فكما أن أداء الأمانة إلى صاحبها واجب أياً يكن صاحبها، مؤمناً أم كافراً، وَلِياً أم عدواً، كذلك الحكم بين الناس يجب أن يكون عادلاً أياً يكن الناس.
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" ﴿المائدة/8﴾ وواللهِ وتاللهِ وباللهِ لو لم يقرأ أحد من آي القرآن الكريم سوى هذه الآية الشريفة وكان منصفاً يطلب الحق لانعقد قلبه على الإيمان بهذا الدين الحنيف الذي يدعو أتباعه إلى أن يتجاوزوا العداوة والبغضاء فيعدلوا مع من يبغضون ويشنؤون كما يعدلون مع من يحبون، لأن شهادتهم لله، وعدلهم لله، والله خبير بالواقع وخبير بهم، والنفس البشرية لا ترتقي إلى هذه المرتبة مرتبة العدل مع العدو كما الولي إلا إذا تعاملت مع الله وتجرَّدت عمّا سواه، تعلم أنها في محضره، وأنه خبير بما تُكِنِّه في صدرها.
على ذلك كانت سيرة رسول الله (ص) لم يميز في عدله بين مكي ومدني، ولا بين قبيلة وقبيلة، ولا بين فقير وغني، ولا بين عربي وأعجمي، كان كما يشهد كل المؤرخين أعدل الناس مع كل الناس.
وعلى ذلك مضى الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي عدل مع مخالفيه قبل مواليه، ولم يفرِّق بينهم على أساس الولاء السياسي والمذهبي، ولا على أساس الانتماء الفكري والعقدي، وكتُبُ التاريخ من موالين وأخصام وأعداء مشحونة بصور عَدله وقِسطه، حتى أنه لصرامته في العدل انفض كثير من حوله، وقاتلوه لعدله لا لجوره.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: