حينما جاء الإسلام برسالته السمحاء، وانكشف الوجود عن بعثة نبوية خاتمة، خرج العرب من جاهليتهم، وانبعثوا بخلق جديد بعد أن كانوا على شر دين وفي شر دار، دين الشرك والوثنية، ودار الجاهلية، فأخرجوا إلى النور، كما قال تعالى: "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور...".
لقد صدع الرسول بالرسالة، وهدى العباد إلى سبل السلام والنجاة؛ فحق للعرب أن يكونوا أسيادًا، وأن يدخلوا في التاريخ روّادًا وصناعًا! ولم يكن من الصدفة أبدًا أن يكتب للعرب والمسلمين تاريخ جديد، تاريخ بدأ بالكلمة والقلم، حيث لمس العرب قبل غيرهم معنى أن يبعث الإنسان جديدًا في دينه ودنياه!
فإذا كان الإسلام قد أحدث للعرب هذه القفزة النوعية فيما كانوا عليه من دين وسياسة واجتماع واقتصاد، وقبل ذلك فيما كانوا عليه من ثقافة ونظرة إلى الوجود والحياة، فإن السؤال المتجدد دائمًا يبقى: لماذا تغيّرت فلسفة التاريخ، وانقلبت المفاهيم، وتبدّلت أحوال العرب والمسلمين، ليعودوا إلى الجاهلية من جديد، كأن لا نبيًا جاء ولا وحيًا نزل؟ وهل لهذا الانقلاب من معنى غير أن العرب قد خرجوا مما سبق لهم أن دخلوا فيه، وكان سببًا في تحولاتهم المعرفية والإنسانية، وقد قيل فيهم: "إن العالم لم يعرف فاتحًا أرحم من العرب...".
لقد سُئل الإمام شمس الدين رحمه الله ذات يوم، عما نحتاج إليه لتصحيح التاريخ، وهل يمكن للسياسة أن تقوم بذلك؟ وما هي إمكانية ذلك في ظل انعدام الرؤية الجامعة في مدارس المسلمين ومذاهبهم المختلفة إلى حد التناقض؟ فأجاب شمس الدين: "إن السياسات التي أخرجت المسلمين من التاريخ، وجعلتهم أحزابًا متلاعنة، لا يمكن أن تكون سببًا في إعادة التشكل التاريخي، فمن باب أولى أن تكون السياسة عاجزةً عن تصحيح الرؤية والهدف، سواء في الدين أو في السياسة".
يقول شمس الدين: "إن المنهجية التي جاء بها القرآن وحث على الالتزام بها، هي المبتدأ لكل تصحيح؛ وهذا ما ينبغي على العلماء القيام به، لأن القرآن لم يتحدث عن سياسة متفلتة من عقال العلم والدين؛ فإذا لم نتعقّل معنى الرؤية الدينية في تصحيح التاريخ، فلن تكون ثمة فائدة في المساعي الهادفة إلى التحقق في التاريخ، صناعة ورؤية وهدفًا.
ولهذا نجد القرآن الكريم يشتمل على صدقية الخبر التاريخي في وحدة الأحداث التي عرضت للأنبياء في تاريخهم؛ فكانت الوحدة تشكل لهم منهجًا وهدفًا في الدين والدنيا".
إن ما يقدّمه القرآن من رؤية في التاريخ، يحتم على العلماء ملاحظة الموقف الديني لجهة عدم التفرّق في الدين، وهذا ما يستلزم حتمًا وحدة الموقف في التعبير السياسي. وإذا كان للإمامة من دور في حياة العرب والمسلمين، فهو القيام بأعباء الرسالة على النحو الذي يحفظ وحدة الأمة، ويمنع حزبية الموقف الديني عنها!
وهذا ما نرى أن الإمامة عبرت عنه في تاريخها؛ فكانت تختار دائمًا الوحدة مقابل السلطة، والهداية مقابل السياسة الضالة! وذلك إنما كان من الأئمة تأسيسًا على ما بيّنه القرآن في معنى الوحدة، كما قال تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون...".
فالعلاقة جد وثيقة ومحكمة بين الوحدة والعبادة لله تعالى، ما يؤكد لنا أن المشكلة في تصحيح التاريخ إنما تبدأ من تصحيح المعتقد وسلامة الموقف الديني، وهذا ما كان علماء القرآن يختارونه في الترجمات العملية في الواقع التاريخي، ليكون منسجمًا مع وحدة الموقف الديني بكل تجلياته. وقد أظهر القرآن أن من أعظم تجليات هذا الموقف هو الوحدة في إطار تنوعات الأمة.
فتاريخ الإسلام هو تاريخ الأمة المقدسة، فلم يلتبس الموقف الحاسم للإسلام في التأكيد على هذه الوحدة التي أخرجها القرآن إخراجًا بما وفرّه لها من تحصينات وتشريعات جعلت من وجود الأمة مقياسًا لكل تحول إيجابي في التاريخ الإسلامي.
وقد ترجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا الموقف عمليًا فيما أسس له من صيغ تاريخية وسياسية لحماية التنوعات البشرية، كما جاء في صحيفة المدينة (دستور المدينة)، فلم يكن هذا التأسيس في واقع الأمة منفصلًا عن رؤيتها في ضرورة التوحد الديني في الرؤية والهدف، وإن اختلفت تفاصيل التشريعات الدينية فيما كانت الأمم تأخذ به من ذلك...
فالسؤال عن التصحيح التاريخي وفق رؤية الإسلام ليس مجاله ما استقرّت عليه أحوال الناس في تحولاتهم الدينية والسياسية؛ وإنما يكون من خلال العودة إلى القرآن الكريم على نحو تُستثنى فيه كل تأسيسات المذاهب والأحزاب الدينية، التي كانت ولا تزال تشكًل حائلًا دون انبعاث الأمة.
ولا شك في أن ما يعايشه العرب اليوم هو انعكاس لهذه الحزبية، ولو أنهم عقلوا جيدًا معنى التحول التاريخي وفق رؤية الإسلام، لما كانوا قد بلغوا هذا المبلغ من التفرق في الدين، وفي الرؤية السياسية أيضًا، باعتبار أنه سبق للقرآن أن حذّر من الحزبية اليهودية، وبيّن للأمة الإسلامية مدى ما تشكله هذه الحزبية من مخاطر على واقع الأمة، وقد قال لأمته: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب...!".
وكانت النتيجة مزيدًا من التحول السلبي في التاريخ والجغرافيا!! إذ لم يبق للأمة سوى أن تستعيد أمجاد تاريخها الناصع بالانعطاف على تاريخ الإسلام بالقول دون الفعل؛ وهذا ما أدى في النهاية إلى أن تكون الأمة خارج التاريخ الذي أراده الإسلام لها!
فالتطبيع العربي لا يصحّح التاريخ، بل يزيده هجرة وتحولًا في السلبية على نحو ما هو قائم اليوم، إذ لم تعد الأمة إسلامية كما بعثها الله تعالى، بل عادت أدراجها، ليكون لها تاريخ الحزبيات الدينية بكل ما يستلزمه ذلك من ضياع في الهوية والوجود، فضلاً عن الخروج من التاريخ!
فإذا كان لا بد من تصحيح التاريخ، فلنبدأ أولاً بالتحولات الذاتية، وتغيير سياسات الواقع، وإعادة اللحمة مع تاريخ الأمة الناصع، ولعله تصح هنا مقولة القائل: "إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها...". ومثلما أن الأمة احتاجت في سياقها التاريخي إلى أن يكون لها مبعثها الخاص في مشهديات الغيب والشهادة، فقد لا يكون من العجب أبدًا أن يخرج العرب من دينهم ودنياهم، ليكون لهم مبعث جديد، وتاريخ جديد، يعطف آخر الزمان على أوله، بحيث تبعث تلك الأمة المؤمنة من خارج تاريخ العرب والمسلمين، تمامًا كما بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من خارج تاريخهم الجاهلي!!
وهذا هو مقتضى التحول التاريخي في الرؤية القرآنية، أن نؤمن بحاكمية السنن الإلهية، وأن ننتظر تحولات التاريخ من خارج سياقات ما هو معهود لدى البشر!
فالتطبيع العربي مع الحزبية اليهودية لم يسبق له أن استقام في واقع التحول التاريخي للأمة الإسلامية؛ فكيف يراد له اليوم أن يكون تحولًا واقعيًا، أو مصححًا للتاريخ، وهو أعظم خيانة يسجلها عرب التطبيع في تاريخ الأديان والشعوب!؟!
والسلام.
بقلم الکاتب و المحلل اللبنانی ألدكتور "فرح موسى"