
جوهرة كريمة أخرى تنبض بالمعاني الراقية، وتخط لنا الطريق إلى قلوب الناس، فأن يكون الإنسان محبوباً عند الآخرين فتلك رغبة فطرية فيه، لكن لا يفوز بتحقيقها جميع الناس، لافتقاد البعض مهارة التواصل معهم، لذا تأتي هذه الجوهرة الكريمة لترشده إلى الطريق إلى ذلك، ولتؤكِّد أن العلاقات الإنسانية يجب أن تُبنى على اللِّين، والرأفة، والمودّة، والتواضع، والحرص على الآخرين، واحترامهم، وتقدير جهودهم، والثناء عليهم، والبَشاشة في وجوههم، وإنصافهم، ولا تُبنى على التكبُّر، والاستعلاء، والعجرفة، والقَسوة، وغِلظة القلب.
وقال الله تعالى واصفاً علاقة رسوله الأكرم (ص) مع أصحابه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...﴿آل عِمران:159﴾. وقال أيضاً: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿التوبة:128﴾.
إقرأ أيضاً:
وتُجمَع كل تلك الصفات الأخلاقية الراقية المتقدمة بمصطلح (لِينُ العَريكة)، والعَريكة تعني في اللغة العربية الطَّبع والسَّجيَّة، فيكون معنى (لِين العريكة) لين الطبع، يقابله قسوة الطبع، فمن يكن طبعه لَيِّناً، سهلاً، سَمحاً، ودوداً، رؤوفاً، ولسانه عذباً، طيّباً، غير فظٍّ، ولا غليظ، ولا قاسٍ، فإنه يدخل قلوب الآخرين دون استئذان منهم، ويستوطنها دون عناء منهم ولا استثقال.
اللِّين دليل نضج عقلي وأخلاقي، واتزان نفسي، وقوة في الشخصية، فالرجل لَيِّن العَريكة الذي يتواضع للناس، ويرأف بهم، ويحنو عليهم، ويتفهَّمهم، ويُخلص المودة لهم، ويحرص على نفعهم، ويتجنَّب التشدُّد في غير موضعه، ويعرض عن التصلُّب في المواقف التي تستدعي الرحمة، سيحبه الناس بلا شك، وستقبل عليه قلوبهم.
لين الطبع لغة لا تحتاج إلى ترجمان يترجمها، لغة ليست من حروف وكلمات، فحين يلقى الشخص الناس بوجه بشوش، و "البَشَاشَةُ حِبالَةُ المَوَدَّةِ" كما يقول أمير المؤمنين (ع)، ويخاطبهم بالكلام الطيِّب الراقي، ويعاملهم برفق ورقة، فإنه يدخل القلوب من غير استئذان، تلك هي الطبيعة التي فُطر الناس عليها، ينفرون من الغليظ الجاف القاسي، ويأنسون بالهيّن الليِّن اللطيف، وهذا ما يعبر عنه الإمام (ع)، بل ويقرِّره كحقيقة إنسانية: أن اللِّين في الطبع يوجب المحبة،لأن الناس يميلون إلى من يتواضع لهم ولا يستعلي عليهم، إلى من يستمع إليه ولا يُعرِض عنهم، إلى يرأف بهم ولا يقسو عليهم، إلى من يحترمهم ولا يهينهم، إلى من يقدِّر جهودهم ولا ينكرها لهم، إلى من يصدق معهم ولا يكذب عليهم، إلى من يفي لهم ولا ينقض عهدهم، إلى من يُنصفهم ولا يظلمهم، إلى من يشاركهم أحزانهم دون تكلُّف، ويمنحهم من نفسه المودَّة والرحمة.
في مجتمعاتنا اليوم التي تسودها الفردانية والأنانية، وتطغى فيها القسوة والغلظة، وينتشر العنف لدى الأفراد وفي الأُسَر وبين الناس، ويُفتح فيها الهواء أربعا وعشرين ساعة متواصلة على التحريض، والسبِّ، والشتم، والكلام النابي، يصبح اللِّين نوعاً من المقاومة الهادئة، بل وشكلاً من أشكال الدفاع عن قيم الإنسانية المنتهكة، ومظهراً من مظاهر القوة الأخلاقية، فأن تكون رقيقاً وسط القسوة هو دليل على أنك لم تفقد إنسانيتك بعد.
المحبَّة قارئي الكريم لا تُباع ولا تشترى، فاحرص أن تكون محبوباً لا لأنك غني، ولا لأنك قوي، ولا لأنك صاحب سلطة، بل لأنك إنسان لِيِّن العريكة، سهل الخَليقة، صافي القلب، كريم النفس، فإن المحبة التي تنشأ عن اللين محبة خالصة، لا يشوبها طمع ولا يخالطها خوف، ولذلك قال الإمام (ع) "وجبت محبته"، أي أنها محبة لا تحتاج إلى كثير عناء لزرعها، فبمجرد أن يرى الناس هذه السجية فيك، تقع المحبة في قلوبهم كما تقع القطرة في الأرض العطشى فتحييها وتُنبِتُ أزاهيرها.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي