وأجرت مراسلة وكالة "إكنا" للأنباء القرآنية الدولية في لبنان الإعلامية "ريما فارس" حواراً سماحة الشيخ "علي محمد اسماعيل" امام بلدة حبشيت ومسؤول التبليغ والثقافي في الشمال.
بدايةً سُئل سماحة الشيخ "علي إسماعيل"عن تفسير الآية القرآنية التي تذكر قصة تضحية النبي إبراهيم عليه السلام بابنه، في ضوء العقيدة الإسلامية؟
فأجاب :حول الآية التي تتحدث عن تضحية نبي الله إبراهيم بابنه إسماعيل عليهما السلام، لا بد من الالتفات إلى أن نبي الله إبراهيم عليه السلام هو من أعظم أنبياء أولي العزم، حتى ورد في الروايات أنه في الكمال والعظمة نبوته ورسالته تأتي بعد نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأنبياء. بذلك يكون نبي الله إبراهيم محط عناية الله عز وجل، ومحط رحمة من الله وعناية خاصة. وبالتالي، رحمة الله سبحانه وتعالى للعباد الخلص المؤمنين تتجلى في عظيم الابتلاء، لأن المعروف عندنا أن العباد على مستويات، وبالتالي من كان مستواه أو قدره الإيماني أو استعداده الروحاني مرتفعًا يكون ابتلاؤه أشد وأعظم. وكلما صعب الإنسان في هذه الكمالات، كان البلاء عليه أشد. وبالتالي، نبي الله إبراهيم عليه السلام من أكثر الأنبياء والعباد ابتلاءً.
وأضاف سماحة الشيخ "علي "قول الله سبحانه وتعالى في حق نبي الله إبراهيم: "وَإِذْ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ" (البقرة: 124). إبراهيم عليه السلام ابتُلي بالكثير من الابتلاءات وكان دائمًا على قدر هذه الابتلاءات، وكان يخرج منها مرفوع الرأس منتصرًا، فأسعد الله بذلك كثيرًا نبيه إبراهيم عليه السلام.
هذا الولد الذي وهبه الله سبحانه وتعالى لإبراهيم، منذ أن خلقه بدأ الامتحان مع نبي الله إبراهيم بمدى حبه لهذا الولد. وبالتالي، الله سبحانه وتعالى أظهر لنا في الابتلاءات المتكررة المرتبطة بهذا الولد عظيم ارتباط نبي الله إبراهيم به. بعد خمس وتسعون سنة، خُلق له ولد. أمره الله أن يبعد هذا الولد عنه، وأن يضعه في أرض بعيدة، في مكان غير مأهول ليستقر فيه للحياة. بالرغم من ذلك، ظل نبي الله إبراهيم عليه السلام بعد كل هذه المعاناة في امتحان وابتلاء عظيم.
وتابع الحديث سماحة الشيخ "علي اسماعيل"قال الله عز وجل: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات: 102). فلما استسلما وتله للجبين، ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين.
نعم، في هذه الآيات يصور الله سبحانه وتعالى لنا تسليم نبي الله إبراهيم، وتسليم الولد النبي لأمر والده النبي والرسول.
وعن ربط شعيرة ذبح الأضاحي في عيد الأضحى بقصة النبي إبراهيم في القرآن، وما هي الدلالات الروحية لهذه الشعيرة؟
قال سماحة الشيخ "علي اسماعيل"
سُمّي بعيد الأضحى، أو ما يُعرف أيضًا بيوم النحر، لأن حجاج بيت الله الحرام في هذا اليوم يذبحون الأضاحي من البقر أو الغنم في منطقة منى. قال الله عز وجل: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ". فهذا يوم تضحية لحجاج بيت الله الحرام في منى، وكذلك يُستحب للمؤمنين عموماً، حتى من لم يكن في الحج، أن يضحي. حيث وردت في الروايات عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "لو علم الناس ما في الأضحية لاستدانوا وضحوا، إنه ليغفر لصاحب الأضحية عند أول قطرة من دمها". هذه سنة مؤكدة ومستحبة وهي شعيرة واجبة على حجاج بيت الله الحرام.
وأشار سماحته كما في غيرها من الشعائر، لا يمكن فهم حقيقتها وأهلها من دون الآية التي ذكرتها، والتي تتحدث عن ابتلاء نبي الله إبراهيم (عليه السلام) بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام). فإن بعض العناوين ذُكرت في القرآن الكريم وبعضها الآخر لم تُذكر وفسرتها الروايات. وبالإجمال، من أسس قواعد البيت (الكعبة) وبعض الشعائر المرتبطة بالحج والتي بقيت إلى زمن الإسلام وأقرها الإسلام وفصل في بعضها هو نبي الله إبراهيم (عليه السلام).
فمجمل حركة النبي إبراهيم في مكة، سواء هو وزوجته أو هو وولده وابتلاؤه بالذبح أو في مواجهته لإبليس بالرجم، كلها مسائل مرتبطة بذلك الحدث الذي قام به إسماعيل. وكان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) نموذجًا لكل إنسان مؤمن ومخلص. فنعم ذبيحة الأضحية يوم العاشر من شهر ذي الحجة في منى ترتبط بهذه الحادثة التي ذكرها لنا القرآن. واستمر هذا النهج في التضحية والفداء والإخلاص في من أتى بعد نبي الله إبراهيم وفيما أمر به الإسلام الحنيف.
وأضاف سماحة الشيخ "علي اسماعيل"طبعًا، الشعيرة ليس المقصود منها ذبح الحيوانات فقط. إنما هي تجسيد لحالة التضحية والتقديم والبذل في سبيل الله. فأعظم ما يعز على قلب الإنسان في الحياة الدنيا هو الولد، خاصة إذا كان هذا الولد وحيدًا بعد كبر وبعد معاناة طويلة فيكون قرة عين. نبي الله إبراهيم استجاب لأمر الله في أصعب ما يمكن أن يُؤمر به إنسان. والتضحية هي نموذج بسيط بجانب ما مثله الله بنبيه إبراهيم. فكل مؤمن يظهر من خلال فعله الخضوع والتسليم والبذل في سبيل الله سبحانه وتعالى. لذلك، حين أمرنا الله بذبحها، أمرنا بأن نطعمها لمن يستحقها فهي بذل وعطاء وخضوع وتسليم لأمر الله.
وعن الدور الذي تلعبه قصة تضحية النبي إبراهيم (ع) في تعزيز قيم التضحية والإخلاص في الإسلام، وكيف يتجلى ذلك في الاحتفال بعيد الأضحى؟
أجاب سماحة الشيخ "علي اسماعيل"
بالإجابة على السؤال الأساسي، ذكرت أن قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام تجسد أعلى مراتب التضحية والإخلاص. ففي هذه القصة يظهر لنا التضحية ليس فقط من نبي الله إبراهيم بل أيضًا من ابنه إسماعيل عليهما السلام.
التضحية كانت من نبي الله إبراهيم بأعز ما يملك، بفلذة كبده، بقرة عينه. وكانت هذه التضحية مقترنة بإخلاص عميق وتسليم مطلق لله سبحانه وتعالى. وكذلك نرى هذا التسليم في ابنه إسماعيل الذي قال له: "يا أبتي افعل ما تؤمر"، ولم يقل "افعل ما تريد" أو "افعل ما يحلو لك". كان عنده يقين بأن هذا الفعل من الله، وأنه أمر إلهي لا بد من الامتثال له، وقال: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين".
صفة الصبر وما أعظمها من صفة، إذ جاء في الروايات أن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ومن لا صبر له لا دين له. هذه القصة القرآنية تظهر التضحية والإخلاص والصبر على الطاعة، ويجب أن نستذكر هذه المعاني في أعمال العيد ويوم العيد.
فالمقصود من ذبح الأضحية ليس لحمها ولا دماؤها، إنما التضحية رمز للإيمان والإخلاص والتقوى. الله سبحانه وتعالى يقول: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الله ليس بحاجة إلى لحمها ولا إلى دمها، ولكن أراد أن يظهر منا الإخلاص والتضحية والصبر على الطاعة.
وتابع سماحة الشيخ "علي "حديثه التضحية في عيد الأضحى ترمز إلى معاني الإيمان والإسلام، ويجب أن تؤدي إلى التقوى والإيمان والأثر النفسي والعملي في حياة الإنسان. إذا لم تحقق هذه الشعائر هذا الهدف، تكون ظاهرية بلا قيمة.
في قصة نبي الله إبراهيم، يظهر لنا التسليم المطلق لله. يقول الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا". نحن مأمورون بالتسليم المطلق لله، فلا نجد في أنفسنا حرجًا من قضائه وأمره.
طاعة إبراهيم وامتثاله لأمر الله بتقديم فلذة كبده إسماعيل يظهر التسليم المطلق لله. وكان الجواب من الله: "قد صدقت الرؤيا". الله يصف إبراهيم بأنه من الصادقين ومن المحسنين، ويمتدحه بسلامه عليه: "سلام على إبراهيم"، ويصفه بأنه من عباد الله المؤمنين.
في عيد الأضحى، نستحضر معاني التسليم والتضحية والإخلاص والتقوى، ونسعى أن نكون على درب إبراهيم عليه السلام، لعلنا ننال وصف الله لنا بالصادقين والمحسنين، ويجعلنا من عباده المؤمنين.
وفي السؤال كيف تسهم شعائر عيد الأضحى المبارك، مثل صلاة العيد وتوزيع اللحوم، في تعزيز الوحدة والتكافل بين المسلمين؟
كان رد سماحة الشيخ "علي اسماعيل"
من أهم الأعمال التي يتوجه بها المسلمون إلى الله سبحانه وتعالى في يوم عيد الأضحى المبارك هي صلاة العيد والذبح، وهذا يشمل كافة المسلمين سواء كانوا في الحج أو في بيوتهم ولم يتمكنوا من أداء فريضة الحج. صلاة العيد من الأعمال المهمة جدًا في هذا اليوم المبارك، فهي تعتبر مظهرًا للتوحيد والتلاحم بين المسلمين، حيث يجتمعون لأداء هذه الصلاة الجماعية والدعاء إلى الله عز وجل بقلوب متجمعة.
ثانيًا، مسألة الذبح تأتي في سياق العبادة والتضحية، حيث يُحث المسلمون على الذبح في هذا اليوم المبارك، ولمن لا يستطيع الذبح يُشجع على الاقتراض لتحقيق هذه الفريضة، مع العلم أن الاقتراض يُكره في غير الضرورة، وهو أمر متعارف عليه في الروايات الدينية.
وبغض النظر عن القدرة المادية، فإن ما يهم في النهاية هو النية والإخلاص في العبادة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فالله لا ينظر إلى حجم المال أو الذبح، بل ينظر إلى النية والإخلاص.
إذاً، يجمع هذا اليوم المبارك بين عبادة الصلاة والتضحية وبين روح التوحيد والتكافل بين المسلمين، مما يجعله يومًا مميزًا ومليئًا بالعبادة والبركة والتلاحم الاجتماعي."