
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "لِسانُ الحالِ أَصْدَقُ مِنْ لِسانِ الْمَقالِ".
لا قيمة للقول إن لم يقترن بالفعل، فالقول سهل، وكثير من الناس، وأغلبهم يقول جميلاً، حتى إنك حين تسمتع إليهم تَخال أنهم حُكَماء، بل تخال أنهم أنبياء لولا أن النُّبُوَّة قد خُتِمَت بمحمد (ص)، ولكن الفعل منهم قليل، ومعيار صدق الإنسان أفعاله لا أقواله، وبها يمتاز عن سواه، إن الأفعال والمواقف التي يُظهرها الإنسان تعبّر بشكل أصدق عن حاله وحقيقته من الكلام الذي قد يقوله، وهذا ما يؤكِّد عليه علم الأخلاق والسلوك الإنساني.
إقرأ أيضاً
حيث يؤكد أن الأفعال تكون أوضح تعبيراً عن شخصية الفرد ونواياه من مجرد الكلام، فكثيراً ما يُظهِر الإنسان كلاماً لطيفاً أو يدّعي المَحبة، أو الكرم، أو الشجاعة، أو النُّخوة والحَمِيَّة، لكن أفعاله قد تُظهِر ما يناقض هذا الكلام، لذلك، فالفعل هو الذي يكشف عن الصدق الحقيقي لِنِيَّته، كما يكشف عن حقيقته العقدية والفكرية والقِيَمِيَّة.
قد يدّعي شخصٌ الاهتمام بمساعدة الآخرين، لكن عندما يحتاج أحدهم إلى مساعدة فعلية لا يبدي أي مبادرة، هنا يظهر تناقض بين كلامه وتصرُّفه، مِمّا يجعل لسان الحال أصدق في الحكم عليه، كذلك الشخص الذي يتحدث عن أهمية الوقت واحترام المواعيد، ولكنه لا يلتزم بها، يعطي انطباعاً غير صادق، لأن أفعاله تكشف عن عدم صدق قوله، في المجتمع يظهر الفرق بين من يدعي التعاطف لكنه لا يقوم بأي عمل لمساعدة المحتاجين، وبين من يقدم العون بدون كلام كثير، لسان الحال في هذا المثال أوضح بكثير من لسان المقال
إن الله تعالى ذَمَّ الذين يقولون كلاماً لا يتطابق مع أفعالهم، ووصف ذلك بأنه ممقوت مبغوض عنده، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿3﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿4/ الصَّفُّ﴾ ففي هاتَين الآيتَين الكريمَتَين يوبِّخ الله المؤمنين الذين لا تتطابق أقوالهم مع أفعالهم، ويستنكر منهم هذا التناقض الفظيع، هذه الفئة من المؤمنين كانوا قبل أن يُفرَض الجهاد يقولون: لَوَددنا أن الله عَزَّ وَجَلَّ دَلَّنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شَكَّ فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يُقِرّوا به. فلما نزل الأمر بالجهاد كَرِهوا ذلك، وتخلَّفوا عنه وانطلقوا يبحثون عن أعذار لهم، كما ذكر المُؤَرِّخون.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الآيتين الكريمتين نزلتا في أولئك الذين فرّوا في معركة أُحُدٍ وتركوا رسول الله (ص) وفئة قليلة جداً من أصحابه يقاتلون المشركين، وعلى الرغم من نزولهما في هؤلاء أو أولئك فإنهما تذُمّان كل شخص لا يقترن قوله بفعله، سواء كان ذلك في ميدان الجهاد أو أي ميدان آخر من ميادين الحياة، فإن من السِّمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التام بين أقواله وأعماله وكُلَّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل، فإنه يبتعد عن حقيقة الإيمان.
في عِلم النفس، تُعتبر تصرُّفات الإنسان انعكاساً للجانب العميق من شخصيته ووعيه، حيث تظهر الحقيقة الخَفِيَّة التي يحاول إخفاءها بالكلمات، فالتعبير عن المشاعر والنوايا غالباً يكون أصعب بالكلمات، بينما يظهر في أفعال وسلوكيات الإنسان، علم النفس الاجتماعي أيضاً يُبرِز مفهوم "التنافر المعرفي"، وهو الحالة التي يشعر فيها الإنسان بتناقض بين أفعاله وأقواله، مِمّا يعزز فكرة أن الأفعال تكشف عن الحقيقة أكثر من الكلام.
انطلاقا مما سبق يجب علينا كبشر، وكمؤمنين خاصَّةً، أن نُقيم حياتنا على مبدأ التوافق بين أقوالنا وأفعالنا، بحيث يكون سلوكنا تجسيداً لما نقوله ونؤمن به، وهذا يعزِّزُ المصداقية والثقة، وأن نعلم أن سلوكنا هو الذي يعبّر عن إيماننا الحقيقي، وعن التزاماتنا الحقيقية مع الآخَرين سواء في العمل، أو في الأسرة، أو في المجتمع، وأن الفعل هو الأَهَمُّ، وأنه هو الذي يُثبِتُ الصِّدق، فحتى في التربية والتعليم، يعتمد المعلمون والمربّون على التربية بالقُدوة، حيث يكونون نموذجاً للأطفال والشباب في أفعالهم لا أقوالهم فقط.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: