
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ لَمْ يَنْفَعْكَ حَياتُهُ فعُدَّهُ فِي الْمَوْتى".
الحياة حياتَان:
حياة: تقابل الموت المادي للبدن، وهي أدنى مراتب الحياة، وفيها يعيش المرء كما يعيش أي كائن من الكائنات، يأكل ويشرب، ويستمتع، وينام وينهض من نومه، دون أن يضيف إليها شيئاً، ودون أن يكون له تأثير في أحداثها ومجرياتها، ينتفع مِمّا فيها ولا ينفع مَنْ وما فيها.
وحياة يقضيها المرء بالعمل، والجِدِّ، والسَّعي، وتكون له فيها أهداف شخصية وأهداف عامَّة يسعى إلى تحقيقها، ويكون له دور في أحداثها ومجرياتها، ينتفع مما فيها، وينفع مَنْ وما فيها.
إقرأ أيضاً
في هذا السياق تأتي جوهرة الإمام أمير المؤمنين (ع) "مَنْ لَمْ يَنْفَعْكَ حَياتُهُ فعُدَّهُ فِي الْمَوْتى"، وهي تلخص رؤية عميقة لمعنى الحياة وأثر الإنسان في محيطه، فالحياة ليست مجرد وجود جسدي، بل هي أثر يُخَلِّفه المرء فيها، وتأثير في أحداثها، ونفع ينفع به سواه من خلق الله تعالى، ويكون هذا النفع وذاك الأثر هو الهويَّة الحقيقية التي يُعرَف بها في الناس، والنفع هنا يُقصَد به كل فعل إيجابي يثري الحياة الإنسانية ويُعزّز قِيَم الخير فيها، ويساهم في تقدُّم المجتمع وتطوِّرِه ونُمُوِّه، سواء كان ذلك على مستوى المعرفة، أو العمل، أو الأخلاق، أو تقديم العون للآخرين
والحقُّ: إن الشخص الذي لا ينفع الناس في حياته، لا يحقق الغاية من وجوده، لأن الله تعالى خلقه لينفع ذاته وينفع غيره، فإذا لم يكن منه ذلك فما قيمة حياته.
إن الحياة ذاتها تعني الحركة، والفاعلية، والنُّمُوّ، والتأثير، فلو عاشها المرء دون ذلك فهو أشبه ما يكون بالشخص الذي يصاب بإغمائة طويلة، (الكوما) أو بنومٍ يطول شهوراً أو سنوات، قلبه ينبض لكنه لا فائدة تُرجى منه، الحياة الحقيقية ليست مجرد وجود بيولوجي، بل هي فُرصة للعمل والنفع، ومرحلة لإعمار الدنيا وبناء الآخرة، فمَن يعيش لنفسه فقط، دون أن ينفع غيره، فهو مَيْتٌ معنوياً وإن كان حيّاً بيولوجياً، لأنه لا يساهم في صنع الحياة، فالموت لا يقتصر على خروج الروح من الجسد، بل هو غياب الأثر والنفع، فالإنسان الذي يعيش بدون تأثير إيجابي هو فاقد للحياة الحقيقية.
"إِنَّ المُؤْمِنَ نَفَّاعٌ" كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع)، ورُوِيَ عن رسولل الله (ص) أنه قال: "خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ" فالحديث الشريف يربط بين خيرية الإنسان ونفعه لغيره، فالنفع ليس مجرد فعل، بل هو معيار لتقييم الإنسان.
ووصف الإمام أمير المؤمنين (ع) المُؤمِنَ التَّقِيَّ فقال: الْـخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ، إنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيداً فُحْشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ.
فالنفع حياة ودليل عليها، كما أنه دليل على الإيمان الحقيقي الذي ينعكس في أفعال الشخص، ومن أعظم هذه الأفعال النفع للآخرين، والمؤمن يُترجم إيمانه إلى عمل صالح يعود بالنفع على مجتمعه.
وعدم النفع مَوت، ومن لا يساهم في الحياة، ولا ينفع أهلها يموت مَرَّتَين: مَرَّة حين ينعدم أثره وهو على قيد الحياة، ومرة حين تخرج روحه من بدنه، وينتقل إلى عالم الآخرة دون أن يترك أثراً يبقى بعده.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: