ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ لَمْ يَصُنْ وَجْهَهُ عَنْ مَسْئَلَتِكَ فَأَكْرِمْ وَجْهَكَ عَنْ رَدِّه".
وتُشير هذه الجوهرة الكريمة إلى منهج أخلاقي راقٍ يُجسِّد روح الأخلاق الأسلامية في التعامل مع السائل المحتاج، وأثر ذلك على السائل والمسؤول منه، وتدعو إلى صون كرامة السائل وكرامة المسؤول منه.
إقرأ أيضاً
ومُعظمنا تمُرُّ عليه ظروف صعبة يحتاج فيها إلى مال، أو خبرة، أو استشارة، أو خِدمة، أو شفاعة (واسطة) يستوي في ذلك الثَّريٌّ والفقير، فيضطره ذلك إلى السؤال من الآخرين، وفي السؤال ذُلٌ وهوان، وذهاب لماء الوجه، فقد رُوِيَ عن الإمام عَلِيٍ (ع) أنه قال: "وَجْهُكَ مَاءٌ جَامِدٌ يُقَطِّرُهُ السُّؤالُ" ورُوِيَ عنه أيضاً: "السُّؤالُ يُضعِفُ لِسانَ المُتَكَلِّمِ، ويَكسِرُ قَلبَ الشُّجاعِ البَطَلِ، ويُوقِفُ الحُرَّ العزيزَ مَوقِفَ العَبدِ الذَّليلِ، ويُذهِبُ بَهاءَ الوَجهِ، ويَمحَقُ الرِّزقَ".
والحكمة من النهي عن السؤال من الناس ما أمكن، هي: ألا يعتاد المرء على ذلك، فيصبح كَلّاً على المجتمع وعالَة على الآخرين، وبدل أن يكون فرداً منتجاً صار مُستهلِكاً وحسب، فوجوده كعدمه، بل عِبء على الحياة، كما أن ذلك يُعطِّل قدراته وطاقاته، وينفر الناس منه، ويحول بينه وبين ثراء في إمكانه أن يبلغه.
ولذلك حثَّت الروايات الشريفة على تَجَنُّبُ السؤال من الآخرين ما أمكن المرء أن يستغني عن الناس، بأن يصبر على فقره، ويسعى في طلب رزقه، ويرضى بالقليل منه، فقد أوصى رسول الله (ص) أبا ذَرٍّ فقال: "يا أبا ذَرٍّ، إيّاكَ والسُّؤالَ فإنّهُ ذُلٌّ حاضرٌ، وفَقرٌ تَتَعَجَّلُهُ، وفيهِ حِسابٌ طَويلٌ يَومَ القِيامَةِ".
نعم أباحت الروايات الشريفة طلب السؤال من الآخرين حال الضرورات القصوى، فقد رُوِيَ عن الإمام الحسَن المُجتبى (ع) أنه قال: "إنّ المَسْألَةَ لا تَحِلُّ إلّا في إحدى ثلاثٍ: دَمٍ مُفجِعٍ، أو دَيْنٍ مُقْرِحٍ، أو فَقرٍ مُدْقِعٍ".
وفي جوهرته الكريمة يدعو الإمام (ع) المسؤول منه إلى صون كرامة السائل من جهة، وصون كرامته كمسؤول منه بعدم رَدِّ السائل، لأن الرَّدَّ يحمل في طياته رفضاً للسائل وزيادةً في شعوره بالإهانة، يريد الإمام (ع) بذلك أن يزرع في النفوس أخلاق العطاء والكرم، وأن يحثّ المؤمن على أن يكون رحيماً بالسائل، مراعياً حالته النفسية، حتى وإن كان السائل قد قصَّر في حفظ كرامته، فقبول سؤال السائل ومساعدته يعد تكريما لكلا الطرفين.
إن صون كرامة السائل، وحُسنَ التعامل معه، يعكس أخلاق الإنسان، فإذا قصّر السائل في حفظ كرامته، فلا ينبغي للمسؤول أن يقابله بالرَّد أو الإهانة، وبهذا يكون المسؤول منه قد ارتقى بأخلاقه، وسَما بأدبه، وقدَّم نموجاً رائعاً للإنسان الذي يصون كرامته بصونه كرامة الآخرين.
ومن أجمل ما أختم به هذه المقالة ما رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: رُدّوا السَّائِلَ بِبَذْلٍ يَسِيْرٍ، وبِلِيْنٍ ورَحْمَةٍ، فَإِنَّهُ يَأْتِيْكُمْ حَتّى يَقِفَ عَلَى أَبْوابِكُمْ مَنْ لَيْسَ بِإِنْسٍ ولا جَانٍّ، يَنْظُر كَيفَ صَنِيْعِكُمْ فِيْما خَوَّلَكُم اللهُ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي