ایکنا

IQNA

مقامات القرآن الكريم ومناهج التعتيم

18:00 - March 19, 2025
رمز الخبر: 3499413
بيروت ـ إکنا: بمناسبة شهر رمضان المبارك يفترض بأهل القرآن وكل من له شأن علمي، في شهر القرآن، إعادة النظر بكل المناهج التي اعتمدها المفسرون للقرآن الكريم.

وبمناسبة شهر رمضان المبارك يفترض بأهل القرآن الكريم وكل من له شأن علمي، في شهر القرآن، إعادة النظر بكل المناهج التي اعتمدها المفسرون للقرآن الكريم، ويأتي في طليعتها المنهج الاجتهادي في التفسير والتأويل، وذلك نظرًا لما يشوب هذه المناهج من تعتيم وترهلات بيانية على قاعدة أن للقرآن مقامات في التنزّل والتنزيل، والتفسير والتأويل، والمحكم والمتشابه، والمكي والمدني، وغير ذلك مما تشتمل عليه العلوم القرآنية.

وكلنا نعلم أن شأنية القرآن تتجاوز الأمسيات والحفظ والتجويد والترتيل،رغم أهمية ذلك،لتكون وعيًا،وتدبرًا،وعلمًا،وتِبيانًا،وهداية،كما قال تعالى:"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان…"،ومما يعلمه أهل القرآن أيضاً أن القرآن الكريم نزل به جبريل، فأصبح أفضل من الملائكة، ونزل على قلب رسول الله(ص)، فصار سيد الخلق، وجاء إلى أمة محمد(ص)، فأصبحت خير أمة أُخرجت للناس، ونزل في شهر رمضان، فأصبح خير الشهور، ونزل في ليلة القدر، فكانت خير الليالي، ولهذا قيل:من قرأ القرآن وتدّبر فيه،كأنما أوحي إليه،وقد روي عن رسول الله(ص)،كما جاء في تفسير البرهان:"لا يعذّب الله قلبًا وعى القرآن…"،وكل ما جاء في الرواية عن أهل البيت(ع) أن خيرية الناس إنما تكون تبعًا لما يكون لهم من وعي القرآن والتدّبر فيه،كما قال الإمام علي(ع) عن رسول الله(ص):مَن أراد علم الأولين والأخرين فليقرأ القرآن…".

فكل الروايات تؤكد على ضرورة أن يكون الوعي القرآني أساسًا لكل فقه في الدين، لقول رسول الله(ص):"إذا جاءكم الحديث عني فاعرضوه على القرآن،فإن وافقه كان مني،وإن لم يوافقه،فاضربوا به عرض الحائط،فإنه زخرف،كما هو مفاد الحديث في كتاب "ميزان الحكمة".

إقرأ أيضاً


فشهر رمضان هو شهر القرآن، وعلى أهل البحث والتفسير أن يكشفوا للناس غربتهم، ويبيَّنوا لهم معنى أن يكون القرآن كتابًا للأمة،ووعيًا عامًا،لا كما اعتاد أكثر أهل التفسير أن يجعلوه كتابًا للنخبة أو مجالًا للمنافسة في الأمسيات القرآنية ترتيلًا،وتجويدًا،وتزييناً،حتى أنهم لم يجعلوا من القرآن بابًا وحيزًا في اجتهادهم،كما يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره"الميزان في تفسير القرآن".

إن مأخذنا على أكثر مَن فسّر القرآن، هو أنهم تجاهلوا مرجعيته فعلًا،وغلّبوا الروايات،سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، لتكون مجالهم للخطاب مع الناس! وإذا كانت المراكز البحثية أو الحوزات العلمية أو الجامعات الدينية، قد اهتمت بعلوم القرآن فهي لم تتجاوز المألوف من تفسيرات القوم، إذ إن هؤلاء لم يطرحوا منظومات القرآنية العلمية والمعرفية للناس، واكتفوا بإعلان المباركة في المآتم، فخرج القرآن عن كونه منظومةً معرفيةً،ليكون مجرد معجزة نبوية في التاريخ، وأطروحة مقدّسة بعيدة عن أفهام الناس،وكأن قوله تعالى:"أفلا يتدّبرون القرآن…"،مجرد مقولة نتشفى بها في مجالس الوعظ والإرشاد! فلا يعقل أن تكتفي الجمعيات القرآنية،والمعاهد العلمية،باستحضار القرآن،ليكون مادةً جامدةً في تفاعل الناس مع واقعهم وأزماتهم الدنيوية،وقد قلنا ذات يوم على منابر البحث،إنه إذا لم نستفد من علوم القرآن في حياتنا،فما هي حاجتنا إليها في الآخرة!؟أم أنكم تقولون: إن منازل الآخرة،هي منازل قرآنية؟ فإن صح قولكم،فهي منازل وعي وتدّبر وحضور دنيوي مع القرآن والسنة على نحو ما بيّن أئمة أهل البيت(ع) من أن القرآن المهجور يشكو من لا يقرأه ويتدّبر فيه..!؟ لسنا نعترض على ما تؤديه الأمسيات وعلوم التجويد والترتيل ومباركة المآتم بالقرآن إلا أنها ليست الهدف الأسمى من وجود القرآن في حياتنا.

فشهر رمضان،كما هو حال كل الشهور مناسبة عبادية وعلمية في آن، ولابد من الاستفادة منها لفهم وتعقّل منظومات القرآن في اللغة، والبلاغة، والفقه، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والثقافة، والأخلاق، وفي كل ميادين الحياة، وهذا هو مفاد قول الإمام علي(ع):"الله،الله،في القرآن،لا يسبقكم بالعمل به غيركم…"،فهل العمل به هنا،مجرد التجويد والترتيل والحفظ،أم أنه دعوة إلى الوعي بأطروحات القرآن للعمل بها،والتأسيس عليها؟فلماذا لا يتم التباري والتنافس بما قدّمته البحوث العلمية في عصرنا الحديث في علوم القرآن؟ألستم تعلمون،أيها العلماء،أن الإسرائيليات والخرافات قد غزت كل التفاسير لتجعل منها ظلمات في حياتنا،وذلك لكثرة ما اشتملت عليه من مرويات ما أنزل الله بها من سلطان!؟فالقرآن يدعونا إلى الحياة،كما قال تعالى:"استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم…"،وكما قال عيسى بن مريم (ع) "أنا هو نور العالم ومن يتبعني فلا يمشي في الظلام،بل يكون له نور الحياة".

لقد قدّمنا في بحوثنا القرآنية ما نرى فيه منهجيةً جديدة للتعامل مع النص القرآني،وبيّنا أنه نصٌ يرشد إلى كيفية التعامل مع أزمات الحياة،ويهدي إلى التي هي أقوم،وأوضحنا منهجية التعامل مع عمارة السور القرآنية وأبنيتها في اشتملت عليه من مفردات ومصطلحات، ممثلين على ذلك بسورة البلد،التي بدأت بالقسم،وقدّمت رؤية متكاملة عن طبيعة ما يعانيه الناس من كبد،سواء في حياتهم الخاصة،أو العامة،وهي في أهم دلالاتها تحذّر من التهاون بالرقابة الإلهية على الإنسان،مرشدةً إياه إلى كيفية نظم الحياة وتجاوز عقباتها،فهي لا تعرض ذلك لمجرد الفوز بالآخرة والخوف من النار المؤصدة،وإنما هي تقيم عمارة حياة،وتؤسس لقواعد ومبادىء حياتية معاشة،وتدعو الناس إلى الخروج من يأس الحياة،ليكونوا على بيّنة من طبيعة خلقها وسر المكابدة فيها.

فالقرآن الكريم له أبعاد معرفية متكاملة تبدأ من الآية الواحدة وتنتهي بالسورة،ولهذا نجد القرآن يكثر من قوله تعالى:"إن في ذلك لآيةً إن كنتم مؤمنين"،وفلا ينبغي تجاوز عمارة الآيات قبل استيفاء معانيها كاملةً كما جاءت في سياقاتها،وهذا ما يمكن التأسيس عليه لفهم عمارة السورة بما تنطوي عليه من مقاصد،وهكذا فهمنا مسألة الظهور انطلاقًا من وعي كامل بحقيقة المفردة في القرآن كله.

وهكذا، فإن ما اهتدينا إليه من منهجية عزّز لدينا إمكانية استخلاص العبر وتعقل بعض المعارف القرآنية على نحو يسمح لنا بفهم منظومات القرآن الكريم التي تبدأ من منظومة حروف المعاني وتنتهي بطريقة القرآن في صياغة المفردات من حيث هي مفردات غير مترادفة،وقد جاء بها القرآن لتكون دليلًا لنا على بعدية القرآن في الزمان والمكان والحياة.

ومن هنا، نحن ندعو أهل القرآن قبل غيرهم إلى تعقل معنى أن يكون فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، فكلما اقتربنا من وعي الكلام الإلهي في دلالاته الإعجازية،كلما استطعنا ملامسة حقيقة المعارف القرآنية، وهذا ما نرى أنه بحاجة إلى تجديد في المناهج المعتمدة بما يسمح للباحثين بتخريجات جديدة، على أن يكون اللسان العربي هو الأساس في تبيان حقيقة الموقف القرآني، فإذا ما أردنا استيعاب حقيقة الإعجاز البياني،فليس أمامنا سوى تعقّل هذه التأسيسات لوعي أفضلية الكلام الإلهي على سائر الكلام،ففضل الله على خلقه مدركٌ ومتعقّل تمامًا،فلماذ يراد تعجيز الكلام الإلهي لدرجة تحقيق الهجران معه؟فليكن شهر رمضان المبارك منطلقًا لهذا التأسيس المعرفي،لعلنا بذلك نستدرك ما قد فات من معارف القرآن وحقائقه، وخصوصًا في ما يتعلق بأوضاعنا الاجتماعية والسياسية والحضارية، لأن القرآن هو روح الحياة، ويكفي مجتمعاتنا الإسلامية ومعاهدنا العلمية ترهلًا أنها تستجيب لكل دعوة موت، وتجهل أن الله يتحدث إليها بكل آياته في التكوين والتشريع دون أن يكون منها استجابة حياة،وغدًا تشكو هذه الآيات لربها،كما قال الامام الصادق(ع):"ثلاثة يشكون إلى الله تعالى، مسجد خراب لا يصلى فيه أهله،وعالمٌ بين جهّال،وقرآن معلّق وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه".والحمد لله رب العالمين.

قلم أ.د.فرح موسى:رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية
 
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:
captcha