لقد أوضح القرآن الكريم في سننه الحاكمة أن البشر يستبدلون كما تستبدل النعم، فهم إما أن ينفروا لنصرة الحق والدفاع عن المظلوم،وإما أن يستكينوا للمظالم،ويهدروا الحقوق،ويناموا على اللدم ،طلبًا للدنيا ،وحرصًا على متاعها،كما هو حال الكثير من العرب والمسلمين في تاريخهم !؟ إن الله تعالى يأمر بالنفير للحق،ويتوعد على تركه بالعذاب الأليم،بل نرى القرآن يجعله ميزانًا لاستبدال الأمم ،حيث قال تعالى في الآية الـ39 من سورة التوبة المباركة: "إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
فالتولي عن نصرة الحق،واختيار الدعة والسكون في مسيرة الحياة،وعدم أداء التكاليف الإلهية وفق ما أمر الله به ونهى عنه،كل ذلك من شأنه التفريط بما حمله الناس من أمانات سبق لهم أن اخذوا بها،وعاهدوا الله على القيام بها،كما قال تعالى:"وحملها الإنسان…"، في آية عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال،فأبين أن يحملنها وأشفقن منها،وحملها الإنسان.فالنفير في الأرض،والجهاد في سبيل إحقاق الحقوق،وصون الحريات،وحفظ الكرامات، ليس مجرد دعوة للخروج كيفما اتفق،وإنما هو نفير الحق في مواجهة الباطل والظلم،وإلا تحوّل الأمر عن كونه التزاماًوتعاهدًا،ليكون طلبًا للدنيا،وفوزًا بالمغانم !
إقرأ أيضاً
وهنا يتمايز البشر،بين أن يكونوا على نفير في طلب الغنيمة،وبين نفير ينشد الحق،ويدافع عن المظلوم، وهذا ما ارتأينا تسميته بإسلام الغنائم،وإسلام الضمائر،ويوجد في تاريخ الإسلام،وفي سيرة رسول الله(ص) ما يميّز بين أنواع البشر وطريقة إسلامهم،وشتان ما بين أن تكون الغنيمة هدفًا،وبين أن يكون الدين والكرامة والحرية ورضى الله هو الهدف،يقول رسول الله(ص) بعد موجدةِ (حسرة وغضب)عرضت للأنصار إثر تقسيم غنائم غزوة حنين في السنة الثامنة للهجرة،والتي وزّعها رسول الله(ص) على أهل مكة دون أن يكون للأنصار شيء منها،قال لهم الرسول(ص):"أوجدتم(غضبتم)،يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة(متاع حقير)،من الدنيا تآلفت بها قومًا ليسلموا،ووكلتكم إلى إسلامكم،ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير،وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم،فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار….".
فالرسول(ص) في كلامه يمايز بين إسلام الغنيمة وحب الدنيا وتآلف القلوب،وبين إسلام الضمير والحب والاتباع للنبي(ص) إيمانًا واحتسابًا عند الله تعالى،وكم هو هذا الفخر عظيمٌ،وهذا الإيمان قويٌ،أن يوكل أمر الشخص لإيمانه والتزامه وصدق تعاهده.؟ولهذا نلاحظ،أن جواب الأنصار كان منسجماً تماماً مع إسلام ضمائرهم الحية بالدين وكرامة الحياة،فقالوا لرسول الله ص:" رضينا برسول الله قسمًا وحظًا…"
إن مجتمعاتنا اليوم تتمايز وفقًا لذلك،فمنهم مَن ينفر للحق،ومنهم مَن ينفر للباطل،ومنهم مَن لا تعنيه الحياة إلا بالقدر الذي يعود عليهم بالمنفعة والغنيمة!ومتى كان الإسلام الحق يرهن نفسه في ثباته،أو في نفيره إلى أمثال هؤلاء؟وقد رأينا حقيقة ما فعله إسلام الغنائم بأمة الإسلام والمسلمين،قديمًا وحديثًا،فهو لم يترك لها مكانًا بين الأمم،وأخرجها عن كونها خير أمة،لتكون شر أمة أخرجت للناس بما اختارته من دين،واعتمدته من مناهج في إدارة أمورها، وفي تظهير ذاتها للأمم،وقد لا يكون القول جزافًا،ولا عدوانًا، أن تتهم أمة العرب والمسلمين اليوم بأنها لم تعتمد منهج ربها.
وقد قال تعالى:"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم…"،أي يهدي إلى المنهجية القويمة في إدارة شؤون الأمة،وحماية مصالحها.وليس من عجب أبدًا أن تستبدل هذه الأمة لعدم نفيرها وإعراضها عن نصرة الشعوب المظلومة،وخصوصًا الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض للإبادة الجماعية،ويسمع العرب والمسلمون استغاثة هذا الشعب دون أن يكون له ناصر أو معين إلا رب العالمين،وكفى بالله ناصرًا ومعينًا،ولكن معايير الحكم على هذه الأمة التي تسمع وترى ،تبقى خاضعة لما وعدها الله به من عذاب واستبدال ! طالما أنها تخلّت عن النفير!؟
نعم، إن الله على كل شيء قدير، وهو الناصر لدينه، والغالب على أمره، وقد شاءت حكمته امتحان عباده بأنواع البلاءات، ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والذي تفتنه لعاعة الدنيا عن دينه وكرامته،من ذلك الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ويوكل إلى دينه وإسلامه!وكلنا يعلم إن الإسلام لم ينتصر بإسلام الغنائم،ولا بفتوحات التماتم،وإنما انتصر بمن اختاروا الرسول(ص) على الدنيا وأطماعها،ورجعوا برسول الله،ليكونوا أمة المستقبل والفتوح،ونعني بهم أنصار رسول الله،الذين لا تخلو منهم أمة الإسلام،وهم الذين دعا لهم رسول الله بالرحمة الدائمة،بقوله(ص):"اللهم ارحم الأنصار،وأبناء الأنصار،وأبناء أبناء الأنصار…وهل من شهادة أعظم من هذه الشهادة لمن اختاروا إسلام الضمائر والقلوب والعقول على امتداد الزمان والمكان والحياة! فلينظر الناس حيث شاؤوا بطرفهم،فهل يرون غير أنصار اليمن وفلسطين ولبنان يحملون راية الفتح المبين،وينفرون لنصرة المظلومين،وقد علم هؤلاء كيف أن الله ختم آيته الكبرى بالنبأ العظيم،فقال تعالى:"والله على كل شيء قدير…".
بقلم أ.د.فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية