ایکنا

IQNA

إيران ومشروعية التحقق الوجودي

22:57 - April 14, 2025
رمز الخبر: 3499739
بيروت ـ اكنا: منذ 46 عاماً وإيران تكابد  لتكون ثورة حياة، ودولة استقرار،ومشروعًا إسلاميًا مستقلًا في مواجهة ما يراد لها أن تلحق به من مشاريع سياسية واقتصادية!وقد اشتهر عن الثورة الإسلامية في إيران أنها تريد التحرر والاستقلالية عن الشرق والغرب،بحيث يكون لها ما يميزُها،سواء في أطروحة الثورة،أو في أطروحة الدولة.

إيران ومشروعية التحقق الوجوديوهكذا، انطلقت إيران الإسلامية لتعزز مكانتها وعلاقاتها الدولية،وهي في تاريخ صراعها مع الاستكبار لم تنجُ من المكر والتآمر وإعلان الحروب العسكرية والاقتصادية للنيل من أطروحتها في الحياة،وكان أول ما تعرّضت له،هو تآمر حلفي وارسو والأطلسي عليها في دعم الحرب العراقية عليها بعد انتصار ثورتها مباشرةً،فهي لم تكد تتنفس من سقوط نظام الشاه حتى بدأت الحرب لفرض الشروط عليها،والتأثير على طريقة تحققها الوجودي في طريقة بناء دولتها،ومنهجية ثورتها!

ومما لا شك فيه أن الأمة الإيرانية الثائرة لم يكن ينقصها الوعي بمتطلبات النهوض الثوري والتحقق الدولتي المستقل،بل كانت عالمةً بأن الأطروحة المستقلة في الحياة،منهج، ورؤية، وتحقق وجودي مستقل،كل ذلك يحتاج إلى الصمود والصبر ومواجهة الأعداء بكل قوة وبصيرة،لأن المشروع الثوري الذي التزمت به هذه الأمة ليس معهودًا في الأرض في كل ما ينطلق منه من تأسيسات دينية وسياسية،هذا فضلًا عن أنه مشروع يدعو إلى التحرر والاستقلالية من خلال رؤية دينية متميّزة في المنهج والرؤية والهدف.فإيران الإسلامية ليست مجرد دولة تنشد الرفاهية،إذ كيف يكون ذلك،وقد قدّمت ملايين الشهداء والجرحى دفاعًا عن أنموذجها الإسلامي الولائي في الحياة؟

إن أحدًا لا يتوقع لإيران في ثورتها،وفي دولتها،أن تكون دولةً تستبدل نظام حكم بنظام آخر،ثم تلتحق بما هو قائم في العالم من مشاريع سلطوية! فهي اختارت أن تكون دولةً مستقلةً في أطروحتها الدينية،وفي اختيار أنموذج الحياة الذي يتلاءم مع مشروعها المستقل في الدين والدولة،فإذا كانت الأمة الإيرانية تنتظر أن يُرحب بها كمشروع استقلالي وتحرري في عالم التبعية والاستلاب الثقافي والحضاري،فهذا مما لا يمكن تصوره،ولا إحسان الظن به،وخصوصًا إذا كانت هذه الأمة ملتزمة بالنهوض السيادي،وتأخذ على عاتقها نصرة المظلومين والمستضعفين!

فإيران،كما سلف القول منا،ليست مجرد ثورة هادفة إلى التحقق الوجودي كيفما اتفق،وإنما هي أطروحة غير معهودة في الحياة،وهي اختارت بملء إرادتها أن تكون دولةً مستقلة في أنموذجها للحياة؛فلا يُتوقع لها الخضوع،أو الاستسلام أمام الضغوط السياسية والاقتصادية، طالما هي اختارت عن علم مشروعها الديني المستقل،ووجودها المتميّز في الرؤية والهدف.

لذا،فهي تتعرّض اليوم لمزيد من الحصار والضغوط لثنيها، لا عن برنامجها النووي فحسب، وإنما لإخراجها مما اختارته لنفسها من استقلال ديني وسياسي على نحو يؤدي بها إلى التبعية من جديد! وانطلاقًا من ذلك ،نرى أن الأمة الإسلامية في إيران،وفي ظل ما اختارته لنفسها لا يسعها إلا أن تستمر في المواجهة لتثبيت رؤيتها المستقلة،ومقاومة المشاريع الغربية الهادفة إلى إخراج إيران ليس من مشروعها الديني وحسب، وإنما لجعلها أسيرة النماذج الغربية، بحيث لا يكون لها أي منهج مستقل في مواجهة مشاريع الاستلاب الاستعمارية!

إن إيران اليوم تواجه ما سبق لها أن واجهته طيلة عقود من الزمن،ويأتي في طليعة ذلك الضغط الاقتصادي لنزع كل وسائل القوة الإيرانية،وهذا ما يتطلب وعيًا زائدًا لمواجهته،وإلا عادت إيران أدراجها،وكم سيكون ذلك مخيفًا أن تظهر إيران للعالم أن مشروعها الإسلامي غير قابل للحياة في ظل نشدان الترف والرفاهية في الحياة؛فهذا اليمن العظيم يتعرّض للعدوانية منذ عشر سنوات،ويعاني من ضغوط اقتصادية هائلة بهدف إسقاط مشروعه المستقل،ونراه يصمد ويدافع رغم قلة إمكاناته المادية في مواجهة الغرب الاستعماري كله!

فالحرية والسيادة والاستقلال ليست مجرد شعارات ترفعها الشعوب والأمم،وكم من أمة في الأرض لم يعهد منها عبادة الله إطلاقًا، وكان منها الموت من أجل الحرية والاستقلال،فلا بأس من معاناة أمة تعبد الله تعالى، لتكون حرةً في مشروعها،وفي إدارة بلادها.فإيران تفاوض اليوم على قدراتها النووية،أو هي مهدّدة بالحرب فيما لو لم تستجب لشروط الغرب في التخلي عن مشروعها النووي،!

وهذا ما لا ينبغي القبول به حتى ولو كان المبحوث فيه هو الجانب العسكري منه باعتباره حقًا مشروعًا ذا طابع سيادي،بغض النظر عن الرؤية الشرعية حول جوازه،أو حرمته،ويبقى المطلوب من الأمة الإسلامية عدم قبول نتائج الضغوط مهما كانت مؤثراتها،وذلك على قاعدة التحقق المشروع للدولة المستقلة.

أما أن نقبل بالتفاوض لمجرد أن الاستعمار قد اعتاد على فرض شروطه، أو التهديد بالقوة العسكرية، فهذا مما لا يستقيم مع أطروحة الدولة المستقلة،ولا مع أمة أخرجها القرآن الكريم إلى حيز الوجود! فإذا كانت رفاهية الحياة،أو مناورات السياسة تقتضي ذلك،فلسنا متأكدين من أن مبتنيات الثورة،أو مقتضياتها تحتم ذلك،إلا إذا كان المراد من العمل السياسي،هو إخضاع الثورة لمنطق الدولة،وترشيد الثورة، لتكون رهينةً للوضع الاقتصادي،ومتى كانت الثورات الدينية والمبدئية لا تتعرّض إلى مثل هذه الضغوط؟ويكفي الأمة الإيرانية،بما هي أمة منتمية إلى الإسلام، إعلان موقفها المبدئي من مفاوضات يراد لها أن تسجّل موقفًا عدائيًا في داخل انتماء الأمة!

 إن منطق العداء مع الغرب المستعمر،لا يوجب على دولة الأمة الاستجابة للشروط،أو الضغوط،ومَن يدري ماذا تكون عليه نتائج التفاوض في ما قد ينطوي عليه من مخاطر وجودية على استقلالية الثورة والدولة معًا!

فإن قيل:إن التفاوض،أو المحاورة،لن يكون من مؤدياتها غير توضيح الموقف المبدئي من سلاحنا النووي.قلنا:ليست أمريكا هي الدولة التي تعي مبدئية المواقف ،طالما هي لم ترعوِ عن التهديد والوعيد،وكان من الممكن إعطاء الأمة حق التعبير عن موقفها الشعبي العارم،بأن تُرفع العقوبات كشرط أساسي ولازم لترتيب اجتماعات التفاوض،وذلك انسجامًا مع أطروحة الإسلام في وسطية الموقف الديني بكل ما يقتضيه من منهجية مستقلة في قبول، أو رفض ما تراه الأمة لنفسها من حقوق في مواجهة الغرب المستعمر.

فإذا كان البعض يراهن على نجاح المفاوضات،فليعلم هؤلاء أن الشيطان الذي أقسم على تغيير خلق الله تعالى،فلن يكون له أمان التفاوض إلا في حدود ما يضمن له التغيير في البنية الدينية للأمة،وستثبت الأيام،أن الشيطان الأمريكي لا يعنيه من التفاوض سوى احتناك الأمة الإيرانية بما يحقق له الإنعاش الاقتصادي والتحلل الديني!!!،وهذا ما ينبغي التنبه له،والحذر منه في ظل ما نعايشه من تفلت شيطاني على مستوى المنطقة والعالم.

بقلم أ.د.فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان

captcha