
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ مَلَكَهُ الْهَوَى لَمْ يَقْبَلْ مِنْ نَصُوحٍ نُصْحاً".
وتُلخِّص هذه الجوهرة الكريمة خطر تسلُّط الهوى على الإنسان، فمن استبدَّت به أهواؤه يصبح عاجزاً عن تقبّل النصيحة، حتى لو كانت من أخلص الناصحين.
الْهَوَى: مَيل النفس إلى الشهوة، وقيل: سُمِّيَ بذلك لأنه يَهْوِي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهَاوِيَةِ، فليس مجرد رغبة عابرة، بل هو حالة من الانجذاب نحو الشهوات والانحرافات التي تُعمي البصيرة. يقول الإمام علي (ع): "الهَوَى آفَةُ العُقُولِ" إنه يُضعِفُ العقل، ويجعل الإنسان أسيراً لرغباته، فلا يرى الحق والخير والصلاح إلا عبر مرآة مصالحه.
إن الله تعالى يكشف لنا عن خطورة اتباع الهوى فيقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿ ٢٣ ﴾ أي انظر واعجَب من حال من ركِبَ رأسه، وترك الهدى، و أطاع الهوى، فكأنه جعله إلهاً يعبده من دون الله، فهو لا يهوى شيئاً إلا فعله، لا يخاف رباً ولا يخشى عقاباً، ولا يفكِّر فى عاقبة ما يعمل، وما أكثر الذين يتخذون أهواءهم آلهة، فمن الناس من لا يؤمن بشيء إلا بنفسه ومصلحته، وقد يصلي ويصوم ما دام ذلك لا يزاحم شيئاً مِمّا يحِبّ ويهوى، فهواه هو المعبود الحق عنده، وما عداه وسيلة لا غاية، أو عادة لا عبادة، فهذا يُضلُّه اللهُ على علم، والله لا يُضِلُّ أحداً، وكيف يُضِله وقد نهاه عن الضلال وتوَعَّده عليه، ولكن من يسلك طريق الضلال مختاراً يَدَعه وشأنه، ولا يشمله بلطفه بعد أن علم منه الإصرار و العناد، وهو نفسه قد أعمى قلبه عن إدراك الحق ورؤيته وسماعه، بعد أن بيَّنه الله له وحثَّه عليه، فأعرض عنه من غير مبرر.
التعبير القرآني العجيب يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المُتقلِّب، فتعبد هواها، وتخضع له، و تجعله مصدر كل شيء تفكر فيه وتؤمن به، وتتبناه وتختاره، وتقيمه إلهاً قاهراً لها، إن الذي يتخذ إلهه هواه كائن عجيب يستحق أن يُبكى، ويُرثى لحاله، ويستحق من الله أن يضلّه، فلا يتداركه برحمة الهدى، لأنه لم يُبقِ في قلبه نافذة يُشرق منها الهدى عليه، فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور، و تلك المدارك التي يتسرّب منها الهدى، وتعطّلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة و التسليم.
ولذلك جاء عن رسول الله (ص) قوله: "أَعْدى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الّتي بَيْنَ جَنْبَيْكَ" وعِلَّة ذلك أن الهوى جزء من النفس الأمارة بالسوء، التي تحتاج إلى مجاهدة دائمة دائبة.
وجاء عن الإمام الحسين (ع): "النَّاسُ عَبِيْدُ الدُّنْيا، والدِّيْنُ لَعْقٌ عَلى أَلسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَائِشُهُمْ، فَإِذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ"
ما سبق قارئي الكريم يؤكد ما جاء في جوهرة الإمام (ع): "مَنْ مَلَكَهُ الْهَوَى لَمْ يَقْبَلْ مِنْ نَصُوحٍ نُصْحاً" فهي تلخِّص المعركة التي يخوضها العقل مع الهوى، ويربط بين سيطرة الهوى ورفض النصيحة، لأنّ المُتّبع لهواه يرى الناصح خصماً يُهدِّد راحته النفسية، ونفسُهُ تضيق بالنصيحة، لأن هواه يقنعه أن ما يفعله هو الصواب والصلاح، وهو الخير، فالنصيحة لا تُقبل إلا بقلبٍ مُتجرّد من الأهواء، وهذا يحتاج إلى تزكية النفس ومراقبة دائمة لها.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي