وبعد إعلان وقف النار في ٢٧ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠٢٤ م، استمر العدوان الصهيوني على لبنان، قتلًا، وتهجيراً، وتدميراً، وقد أُوكلت إلى الدولة اللبنانية مهام متابعة الاتفاق، ورعاية تطبيق القرار الدولي ١٧٠١، بالتنسيق مع اللجنة المنبثقة عن هذا الاتفاق! وكانت النتيجة تراخي هذه اللجنة عن دورها إلى حدّ أنها لم تعد ترى لاجتماعها ضرورة لمنع العدوان الصهيوني!
إن الذي يثير الدهشة فعلاً هو تمادى العدو في عدوانيته، متجاوزاً الجنوب إلى بيروت والبقاع، مسوغًا ذلك بحماية نفسه، واتفاقه مع أمريكا بموجب تفاهمات تسمح له بمتابعة العدوان حيث يرى ذلك ضروريًا لأمنه، وهذا ما نرى أنه قد أبطل عمل لجنة المراقبة، وحال دون الاستماع إلى مطالبات الدولة اللبنانية بوقف العدوان!
فخلاصة الموقف لا تحتاج إلى مزيد من البحث والتساؤل حول مدى جدوى الشكاوى إلى الجهات الدولية ذات الفعالية في التأثير على العدو لمنعه من الاستمرار في عدوانيته! نعم،الدولة اللبنانية أخذت على عاتقها تنفيذ ما يخصها من اتفاقية وقف النار وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة،وانتشرت في جنوب الليطاني،وقد شهد العالم كله على أن لبنان ومقاومته لم يخرقوا الاتفاق،بل استمروا في المناشدة لدول العالم لممارسة الضغوط على العدو وحمله على احترام المواثيق والعهود دون أن يكون لذلك أدنى الأثر على رعاة العدو وحماته! وهنا يمكن لنا تسجيل الملاحظات الآتية.
إقرأ أيضاً:
أولًا: إن الدولة اللبنانية،هي المسؤولة عن السيادة والحماية،ولا يمكنها الاستماع إلى مسوّغات العدو في ما يخص أمنها ودورها في حماية شعبها والدفاع عن سيادتها،وقد أظهرت المقاومة حرصها الشديد على أن تكون الدولة صاحبة القرار في الحرب والسلم،وليس لأحد أن يسأل،لماذا تأخرّت المقاومة اللبنانية عن هذا الأمر طيلة العقود الماضية؟
فنقول: إن تراخي الدولة عن القيام بمهامها، هو الذي حمل المقاومة على القيام بمهام الدولة، ويكفينا مراجعة تاريخ الأحداث اللبنانية والحروب الأهلية،لنعلم أن الجنوب كان مستباحاً للأعداء وغير الأعداء،وكان لا بد من ممارسة حق الدفاع المشروع،وهذا الأمر لا يخفى على كل الساسة اللبنانيين،الذين يعون جيداً معنى تحرير الأرض وحماية الناس في مواجهة العدو.
ثانياً: لا شك في أن لبنان اليوم،دولةً وشعباً،يقف أمام أطروحات صهيونية تتعلق بالسلاح والمقاومة؛ فإذا لم يكن ممكنًا تسليح القوى المسلحة اللبنانية، فإن الدولة ستكون عاجزة عن الحماية والتحرير وحفظ السيادة، وعلى مَن يطالب بتسليم السلاح أن يجيب على سؤال،كيف يمكن للدولة أن تحمي شعبها، وتدافع عن سيادتها، طالما نرى العدو يستبيح الأرض والسماء،ويستعرض أمامنا قطعان المستوطنين على الحدود اللبنانية الفلسطينية!؟
ثالثاً: إن الدولة اللبنانية بكل أركانها تعي حقيقة المراد من استمرار العدوان الصهيوني على لبنان، وكذلك الشعب اللبناني إلا مَن يحسن الظن بهذا العدو،الكل يدركون أن المراد هو تهشيم الجسم اللبناني الوطني،ليكون خالياً من كل عوامل القوة تمهيدًا للتطبيع وفرض الشروط والاستجابة للمطالب الصهيونية وفق أجندات تتعلق بتوسعة الكيان الصهيوني على حساب الشعوب والدول المجاورة!
فهل المطلوب من الدولة الخضوع والتسليم أم الحفاظ على السلم الأهلي والمواطنة وفق رؤية شاملة،وفهم موضوعي لما ينبغي أن يكون عليه لبنان من دور وحضور في واقعه العربي!؟ فليحذر اللبنانيون من ما يحاك لوطنهم من استلاب وجودي على نغم الطائفية والمذهبية،وعلى وقع الدعوات المشبوهة لتسليم السلاح!نعم،فليحذر لبنان دولةً وشعباً، وجيشاً،من أن يكون المطلوب تدمير الهيكل اللبناني على رؤوس أهله خدمةً للمشروع الصهيوني!
فلبنان ليس أمامه من خيارات سوى تدعيم الموقف الوطني، وتوحيد الموقف في دعم المقاومة، لجعل الدولة أكثر قدرةً،وأصلب موقفًا في مواجهات التحديات التي تطال الوجود اللبناني كله،فلا ينبغي الاستغراق في الطائفية والمذهبية والحزبية لدرجة الغياب عن المطامع الصهيونية في لبنان!
رابعاً: إن استمرار العدو في عدوانيته على الجنوب وبيروت وحيث يشاء، هو مسوّغ لدعم أطروحة المقاومة بكل ما تشكّله من مناعة لهذا الوطن.أما أن ينقسم اللبنانيون حول هذا الأمر،فهذا يُخسر الدولة،ويجعلها عاجزة عن القيام بدورها الوطني،لأن إحسان الظن بالعدو يستند إلى بلاهة موصوفة في تعقّل حقيقة الموقف الوطني اتجاه بناء الدولة وتعزيز وجودها!
خامساً: إن تدمير الهيكل اللبناني يحتاج إلى هكذا نوع من الانقسامات أن تكون الدولة والمقاومة من دون سلاح،وأن يُعطى العدو فسحة أملٍ في الوعي الوطني،بحيث يكون له الاطمئنان إزاء كل ما يطمح إلى بنائه من مشاريع توسعية سبق له أن عبر عنها في كل عدوان على لبنان! فإذا كان المطلوب من الدولة اختيار السلام وفق أجندات هادفة لتعرية اللبنانيين أمام مَن يتربّص بهم شرًا وتقسيماً،فقد بان لدعاة بناء الدولة أن ثمن السلام لا ينبغي أن يكون مؤداه الحرب الأهلية؛وهذا ما أفادتنا به التجارب اللبنانية،أن خيار السلام المنزوع من عامل القوة دمّر كل شيء في حياة اللبنانيين،فلا ينبغي تكرار نماذج الهزيمة على أنها انتصارات!
إن أخطر ما تواجهه الدولة اللبنانية اليوم،هو اعتماد الشكوى إزاء العدوانية على لبنان،وعدم اتخاذ القرار الوطني باسم الدولة لحماية الوطن لكل بنيه،على أمل أن يعي كل اللبنانيين ضرورة وجود مقاومة كجزءٍ لا يتجّزأ من دستور الوطن وخطابه القسمي،علّ ذلك يدفع بالدولة إلى أن تكون المشروع المقاوم في مواجهة العدوان.والسلام.
بقلم أ.د.فرح موسى:رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية