
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ تَرَكَ قَوْلَ: لا أَدْري، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ".
معادلة أخرى يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع) تربط بين ادعاء العلم والمعرفة في كل شيء، وبين الهلاك المترتب على ذلك، وفيها تحذير من الاعتداد بالنفس والاعتقاد أنها قد حازت العلم كله، وتحذير لنا جميعا من الإجابة عمّا نُسأل إذا لم نكن عالمين بالجواب أو متيقنين من صحته، والإجابة بكلمة: "لا أدري" عندما يُسأل عن شيء لا يعلمه ولا يعرف الإجابة فيه، وفيها دعوة كذلك إلى التواضع العلمي ولو كان الشخص عالماً، وأن ما بلغه من العلم قليل قياساً إلى ما يجهله، والاعتراف بالجهل عند عدم المعرفة، لأن الادعاء بمعرفة كل شيء يؤدي إلى الوقوع في أخطاء قاتلة على المستوى العلمي والاجتماعي، ناهيك عمّا يترتب على الإجابة الخاطئة من تَبِعات دنيوية وأخروية، وضلال وانحراف.
المعادلة تؤشِّر إلى ظاهرة صاحبت الإنسان منذ فجر الإنسانية، ظاهرة ادِّعاء العلم من غير أهله، وقد استفحلت في الآونة الأخيرة، لا سِيّما بعد وفرة مِنَصّات التواصل الاجتماعي، التي وفَّرت لكل شخص أن يبدي رأيه للناس، وأن ينشر أفكاره فيهم، وأن يحاكمهم، فيقبل ما يشاء منهم ويرفض ما يشاء، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء، حتى ولو كان هو نكرة في الناس، أو جاهلاً لا رأي له، أو أُمِّياً لا يُحسِن من العلم شيئاً.
ومعلوم أن العلم ليس معلومات يحفظها الإنسان وحسب، بل معرفة تبتني على أُسُس وقواعد، ومناهج وضوابط، وهذه جميعاً تحتاج إلى تخصُّص وتمرُّس، واستيعاب شامل وفهم عميق للعلم الذي يتخصَّص فيه، وقدرة على تطبيق قواعده على مواردها، وتشخيص دقيق للموضوعات التي يبحثها، ودراسة هل تنطبق المفاهيم عليها أو لا تنطبق.
فليس لكل أحد أن يقول رأياً فيما لا يعرف، أو يقدِّم وجهة نظر فيما لم يُتْقِنه، وهذا بالضبط ما جاء النهي في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول الأكرم وآله الأئمة الأطهار (ع). قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴿الإسراء: 36﴾ فهذا نهي شديد عن القول بغير علم، واقتفاء أثر الآخرين بغير بصيرة، وتبني مقولاتهم من دون تمحيص وتدقيق، وفي قوله تعالى: " كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" إشارة إلى أن الإنسان سَيُسأل عن تلك الجوارح "السمع والبصر والفؤاد"وعن كل ما يصدر عنها من فعل أو قول بغير علم، وبغير معرفة ويقين، وبغير تفكُّرٍ وتدبُّر.
فالتَّثَبُّت من كل علم وفهمه فهما عميقا واستيعابه استيعاباً شاملاً، قبل تبنيه والقول به، هو دعوة القرآن الكريم، ومتى استقام الإنسان على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة، ولم يبق مجال للظن والشبهة، ولم يبق مجال للقول بغير علم.
وقال الله تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴿النور: 15﴾.
الآية الكريمة تتحدث عن حادثة الإفك، حيث أخذ الناس يتناقلون الحديث المكذوب فيما بينهم، وتتداوله ألسنتهم دون تثبُّتٍ وتمحيص، فهو حديث أَلْسِنَةٍ، لا تنطق عن علم، ولا تأخذ عن عقل أو منطق، إنه حديث لِسانٍ يأخذ عن لِسانٍ، حتى دون أن يمُرَّ على العقل الذي يُحلِّله ويتثبَّت منه، بل يتداولونه بخفَّة واستهتار وقِلَّة تحرُّج.
وجاء في الحديث عن رسول الله (ص): "اتَّقُوا تَكذيبَ اللَّهِ! قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وكَيفَ ذاكَ؟ قالَ: يَقُولُ أحَدُكُم: قالَ اللَّهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبتَ لَم أقُلْهُ، أو يَقولُ: لَم يَقُلِ اللَّهُ، فَيَقولُ اللَّهُ عَزَّوجلَّ: كَذَبتَ قَد قُلتُهُ"
وجاء عنه أيضاً: "مَن أفتَى بغيرِ عِلمٍ لَعَنَتهُ ملائكةُ السَّماءِ والأرضِ" . وعليه: فإن قول: "لا أدري" علامة للعلم الحقيقي والتواضع، وحِصن لا يليق بالعالم أن يتركه، فإن تجاهله أهلكه في الدنيا وفي الآخرة.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي