ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ ضَرُورَتِه فَوَّتَهُ ذلِكَ مَنْفَعَتَهُ".
حياتنا قارئي الكريم عبارة عن خِضَمٍّ مائجٍ متلاطمٍ من الحاجات، والتحديات، والمَهام، أضف إلى ذلك سباقنا المحموم مع الزمن الذي يستحيل أن ينتظرنا هنيهة واحدة، وهو إذ يمضي يمضي بأعمارنا، بل يمضي ببعضنا، كما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع)، فما يفوتنا منه لا يستحيل أن نسترجعه، فما فاتَ ماتَ، ولسنا نعلم ما هو آتٍ، إن ذلك يفرض علينا أن نبادر إلى استغلال كل دقيقة منه، وكل دقيقة منه فُرصة، فإما أن نُضِّيعها بالتسويف والمماطلة، وإما نضيعها بالانشغال بما ليس ضرورياً لنا، أو نقتنصها اقتناص الصائد الذي يتربَّص بفريسته.
إقرأ أيضاً:
هنا تبرز ضرورة ترتيب الأولويات، وتقديم الأهمِّ على المهم، كإجراء ضروري للحصول على أكبر قدر ممكن من الحاجات، ومواجهة كل التحديات، وتحقيق النجاح الذي نرغب فيه، وترتيب الأولويات وتقديم الأهم على المهم مبدأ عقلي أصيل، وحكمة عملية لا يناقش فيها اثنان.
والضرورات قارئي الكريم: هي تلك الأمور الملحَّة والضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها، سواء كانت حاجات مادية أم معنوية، وتُبنى عليها مصالح الإنسان ومنافعه الدنيوية والأخروية، والانشغال بها يجنّبنا الفوضى والضياع والفشل، ويضمن لنا التقدّم في الحياة دون أن تستهلكنا الأمور الثانوية وغير الضرورية أو التافهة.
والانشغال بالضروريات يقوم على مبدأ تقديم الأهَمِّ على المهم، فالضرورات رغم كونها جميعاً ضرورية لكنها لا تتساوى فيما بينها إن من حيث الأهمية، أو من حيث الآثار المترتبة عليها، وقد يكون بعضها مقدمة لبعضها الآخر، وإتمامه شرط للمباشرة بما يليه في الأهمية، والعاقل يقدّم العمل الذي تترتّب عليه مصلحة أعظم أو درء مفسدة أكبر، حتى وإن كان تركه يؤدي إلى فوات مصلحة أقل، وإلى هذا المبدأ أشار الإمام أمير المؤمنين (ع) بقوله: "إِنَّ رَأْيَكَ لاَ يَتَّسِعُ لِكُلِّ شَيْءٍ فَفَرِّغْهُ لِلْمُهِمِّ".
إن إهمال هذا المبدأ يؤدي إلى ضياع الجهد فيما لا يُثمر، وتكدّس الأعمال دون إنجاز حقيقي، بينما اعتماد هذا المبدأ في جميع شؤوننا، يمكننا من استثمار أعمارنا الاستثمار الأمثل، ويمكننا من إنجاز كل أو معظم أعمالنا، ويسهِّل علينا تحقيق أهدافنا، ويصفّي أذهاننا، ويجعلنا أكثر إبداعاً وإتقاناً لأعمالنا، ويعلمنا تنظيم شؤوننا.
أما إذا انشغل المرء بغير الضروري، وقدم غير المهم الذي يمكن تأجيله، وأمضى وقته بما لا يحتاج إليه، فإنه يضيِّع وقته بل عمره في غير الضروري من أموره، ثم لا يُنجِز ما هو ضروري له، فتتراكم عليه المهام، ويضيق عليه الوقت، ويخسر الفرص، ويكون مصيره الفشل والإخفاق.
لذا، فإن من الحكمة أن يسأل الإنسان نفسه دائماً: ما الضروري الآن؟ وما هو الأهم؟ ويصنِّف واجباته إلى ضرورية، وهامة، وثانوية، ثم يُقَسِّم وقته بعناية ودقَّة، ويتجنَّب ما يشغله من أمور غير ضرورية، ناهيك عن التافه منها، ويتفرَّغ للأهم منها، ثم يباشر العمل وفق هذا الترتيب، فيكتب له النجاح إن شاء الله تعالى.
ولا يفوتني أن أُنَبِّه إلى أن التفرّغ للضروريات لا يعني ألّا يُرفِّه الإنسان عن نفسه، أو يجتنب ما يحتاج إليه من راحة، أو يجتنب ممارسة هواياته المباحة والمفيدة، فقد جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "لِلْمُؤْمِنِ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُخَلَّي بَيْنَ نَفْسِهِ، وَلَذَّتُهَا فِيهَا يَحِلُّ وَيَجْمِلُ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي