ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اقْتَنَعَ بِالْكَفافِ أَدّاهُ إلى الْعَفافِ".
تربط هذه المعادلة بين الرضا بما يكفي والابتعاد عن الجشع والطمع، وبين العفَّة، وكلتاهما فضيلتان أخلاقيتان ساميتان، تؤديان بالمرء إلى الغنى والعِزِّ، والحياة الطيِّبة.
القناعة: هي الرِّضا بما دون الكفاية، وترك التشوُّف إلى المفقود، والاستغناء بالموجود، تقول: قنِعَ بالشيء إذا رضِيَ به، وأصلها من الإقناع وهو: الإقبال على الشيء، وسُمِّيَت قناعة لأن المرء يُقبِل على الشيء الذي له راضياً.
إقرأ أيضاً:
والكَفاف من الكفاية وهو: ما يَكُفُّ عَنِ السُّؤَال، ويفي بمِقدارَ الحاجة من غير زيادةٍ، ولا نقصان، والكفاية: سدُّ الْحاجات الأصلِيَّةِ للشَّخصِ، مِنْ مَطعَمٍ، ومَلبَسٍ، ومَسكَنٍ، وغيرها، بحسب حالهِ، وحال مَنْ في نفقتهِ مِنْ غيرِ إِسْرافٍ ولا تَقْتِيرٍ.
والعَفاف من العِفَّة وهي: تنزيه النفس وضبطها عن الجري وراء الشهوات بأنواعها، وهي حالة متوسطة بين الإفراط في تناول الشهوات، وبين التفريط الذي هو التَّرَهُّب وهجر الشهوات، ويكون ذلك بضبط القلب عن التطلُّع للشهوات الممنوعة، وبحفظ الجوارح كاليد واللسان والسمع والبصر والفرج عن القبائح.
والكفاف على مراتب:
المرتبة الأولى: الكفاف النفسي الذاتي، ويتمثَّل في اكتفاء الإنسان بذاته، وثقته بها، وقناعته بما وهبه الله من قدرات ومواهب وطاقات.
المرتبة الثانية: الكفاف المادي: ويتجلَّى في قناعة الإنسان بما يملكه من مال، وملبس، ومنزل، وسيّارة، وغيرها من الممتلكات المادية.
المرتبة الثالثة: الكفاف الاجتماعي: ويتجلَّى في قناعة الشخص بالمكانة الاجتماعية وعدم تطلِّعه إلى امتيازات اجتماعية غير محمودة.
في جميع هذه المراتب يحسن الكفاف وتحسن القناعة، وكلاهما من الفضائل الأخلاقية السامية.
غير أن هناك أموراً لا يحسن الاكتفاء فيها بقدر محدَّد، كما لا يحسن أن يقتنع الشخص بما وصل إليه فيها، فلا ينبغي للشخص أن يقتنع بما وصل إليه من عِلم ومعرفة، بل عليه أن يحرص على الازدياد منه، فالعلم لا منتهى لحده، مهما بلغ الشخص منه يبقى علمه قليلاً محدوداً، قال تعالى: ... وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴿الإسراء: 85﴾.
فالقناعة بما وصل إليه الشخص من العلم مذمومة، والاكتفاء منه بقَدرٍ محدد يفضي به إلى التخلُّف عن ركب العلم الذي كلّما فُتِح منه باب انفتحت أبواب على عوالم لم تكن في الحُسبان، ولذلك يحُثّنا الله تعالى من طريق خطابه إلى رسوله الأكرم (ص) على طلب المزيد من العلم إذ يقول: ... وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴿طه: 114﴾.
والإيمان لا يُكتفى بالدرجة التي بلغها الشخص منه، فإنه درجات، كلما ارتقى المؤمن درجة منه كانت همته في الدرجة التالية، حتى يبلغ اليقين، ثم إن لليقين درجات كذلك حتى ينتهي إلا أعلاها.
والعبادة درجات، والتقوى درجات، والمؤمن لا يكتفي بدرجة دنيا، بل تتعلَّق همته بما فوقها، ويدعو الله التوفيق لذلك، ويسأله أن يجعله للمتقين إماماً، كما جاء في وصف عباد الرحمان في سورة الفرقان المباركة.
وعلى كُلٍّ فإن القناعة بالكفاف مقدمة ضرورية للعفاف، فالكفاف يضبط نَهَم الإنسان، ويقويه أمام الشهوات والأهواء، وينبِّهه إلى أن كماله الإنساني لا يتحقق إلا بالعفاف والتقوى، لا في الترف والبطر، فتنصرف همته إلى ما يبقى، وعمّا يزول ويفنى.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي