
وقال الله تعالى في محكم كتابه: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا"(سورة محمد.الآية: 10).
لقد أثبتت التجارب البشرية أن مآلات الطغيان وعواقبه على أهله ليس مما يمكن تجاهله أو التنكر له في عالم الحضارة والمدنية؛ فكل شيء في عالمنا المعاصر له ما يماثله من الطغيان في تاريخ الحضارات والأمم، وقد قال
الإمام علي(ع):"استدلوا على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه…". ولهذا فإن الدفع الحضاري لم يسبق له أن كان ساكنًا أو مستقرًا، بل كانت له دائمًا صيرورته وانزياحاته في التاريخ والجغرافيا! إنها السنن يتبع بعضها بعضًا،لا تحابي أحدًا،ولا يمتنع منها أحد.
إقرأ أيضاً:
تلك هي حاكمية السنن، ومسارات الدفع الإنساني للإبقاء على عالم المعنى، وشعلة التحضّر، وبقية الخير في العالم،كما قال تعالى:"لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض،ولكنَّ الله ذو فضل على العالمين…". فالأيام كانت وستبقى دوَلًا بين الناس، ترفع قومًا، وتسقط آخرين، ناهيك من سنن الاستبدال، وتبدّل الأحوال،صعودًا وهبوطًا،في السطوة والمكنة الحضارية،كما قال "غوستاف لوبون" المستشرق الفرنسي في كتابه "حضارة العرب": إن الحضارات ما كانت لتسقط وتتهاوى عن مجدها،لولا أنها استجابت لعوامل فنائها،وعاندت،أو تغافلت عن روح المعنى وسمو الذات فيها".
إن عالمنا اليوم يعيش إرهاصات تحوّلٍ عظيم نحو النهاية المحتومة بعد أن تقاربت الأمور وبلغت شأوها حضارة التزيّن والعمران! فإذا بها تقتل إنسانها، وتبيد معناها الروحي بصلف القاهرية والجبت والطاغوت! فلم يعد ثمة شيء في هذا العالم بمنأى عن أن يطاله المنكر والفحشاء، والتغيّر نحو الأسوأ، ولعل أكثر ما يُثير انتباهنا في هذا السوء،هو ما خلص إليه الإنسان من قناعة راسخة بأن العالم قد استنفذ كل وسائل الحياة فيه،وعبث بكل المبادىء والقيم،وتسيّدته المنافع دون الخيرات!
فلا تجد إلا تضخمات اقتصادية، وسرقات موصوفة، وأكاذيب ديموقراطية، ونفاقًا دينيًا وسياسيًا قل نظيره لجهة ما آلت إليه العلاقات الدولية، والتحكمات الشيطانية في مراكز النفوذ العالمي التي لا تحرك الإبادات الجماعية للناس فيها ساكنًا، ولا تثير فيها قلقًا! إن ما يتعايش معه العالم اليوم من إبادة جماعية في فلسطين والسودان وأوكرانيا، وفي كثير من البلاد التي تموت على ضفاف وشطآن التنافس الدولي، يؤكد لنا الانفلات الحضاري من عقال الأنسنة!
فمهما حاولنا تخفيف أزمات عالمنا أو النظر بتفاؤل إلى حقيقة المساعي التي يبذلها العقلاء، فليس ذلك سوى محاولات يائسة ومؤقتة، لا تلبث أن تزول لمجرد أن شيطان هنا،أو هناك استخدم الفيتو الحضاري ضد الإنسانية! فيعود القلق ليستبد بكل أمل في الحياة، وذلك لما تحدثه الدول الكبرى من أزمات وجودية حيث نجد هذه الدول في سياساتها، وفي طريقة تفاعلها مع الأزمات الطارئة تزيد من حدة الصراع والتنافس لدرجة أنها لم تعد تخشى مخاطر السلاح النووي!كما يجري في أوكرانيا، وفي طريقة التعامل مع الملفات الساخنةكالملف النووي الإيراني، فلم يعد الطغيان العالمي"الحضاري"، مجرد تجاوز للحد في المظالم، بل تجاوز ذلك،ليكون أسلوباً في الحياة، ومنهجاً في إقامة العلاقات وفرضها، فضلًا عن الهيمنة وابتكار كل ما يهدّد وجود الإنسان على هذه الأرض!
فالعالم المستعمر في حياتنا المعاصرة يتنافس اقتصاديًا، وينافق علائقيًا وتعارفيًا، وتبادلًا حضاريًا؛ ولكنه في الوقت عينه يسعى جاهدًا لعسكرة الفضاء، وحشد الجيوش،وزيادة الإنفاق على التسلح، متجاهلًا ما سبق له أن نجا منه في ١٦ أكتوبر سنة ١٩٦٢م،في ما سمي حينها بأزمة الصواريخ الكوبية، والتي كادت تشعل حربًا نووية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة!
فعالمنا اليوم في ظل أزماته وتناقض مصالحه صائرٌ إلى هذا المصير رغم كل محاولات المكر الاستراتيجي السائد بين الدول العظمى، وإلا فما هي مسوّغات تهديد الأمن القومي الروسي في افتعال الأزمة الأوكرانية !؟ فالحرب النووية وإن لم تكن خيارًا حضاريًا، إلا أنها تصبح حقيقةً ماثلةً حين يتعلق الأمر بالمصالح الجيوستراتيجية للدول.
نعم، إنها الحرب النووية بكل طغيانها الحضاري،فهذه أمريكا تبدأ بالحرب التجارية، وتغذي حروب الإبادة، وتهدّد بالحرب التي لا مثيل لها مع إيران،متجاهلةً كل ما يمكن أن يؤول إليه ذلك من تداعيات وحروب،ومتى لم يكن الطغيان الأمريكي بادئًا بافتعال الأزمات لقهر الدول أو للهيمنة الاقتصادية عليها،وقد حاولت مؤخرًا فرض إرادتها على اليمن في البحر الأحمر،ولكنها توقفت عن ذلك خشية أن يلحق طغيانها المهانة في كل بحار العالم!
إن ما يُنذر به
القرآن الكريم،هو هذا،أن يتحوّل الطغياني العالمي إلى أسلوب في العلاقات وحفظ المصالح الحيوية للدول،فالله تعالى يجزم بتدمير هذا الطغيان بما يحمله في ذات نفسه من عوامل الموت والفناء،فلم يعد مقدورًا لأحد،أن يمنع من الحرب النووية،وذلك بلحاظ كون التأسيسات الحضارية مبتنيةً ومقعّدةً على التنافس الساخن والحاد في المصالح والأهداف،فلن يحول دون وقوعها التكاذب في العلاقات أو التبادل في المصالح الاستراتيجية بين الدول!
إن ما ينتظرنا في قابل الأيام،هو هذا التحول نحو عالم ما بعد الطغيان بما يتبقى فيه من بشرية منزوعة السلاح،ومشفوعة بإرادة السماء لتحقيق الخلاص البشري،بحيث يعود العالم إلى دورته المعهودة في بناء الإنسان،فيخرج جديدًا في كل ما حق له من كرامة وعزة وحياة.
لقد برز العالم المستكبر إلى تدمير ذاته بما اختاره من طغيان، واستوى عليه من كفران، فلا بأس أن يدمّر عليه بطغيانه، وبروق مطامعه،لتكون له،بما يتبقى منه،تأسيساته الجديدة في بنائه الإنساني والحضاري! إنها اللحظة الحاسمة في تحولات العالم لأن الله تعالى وعد بإحقاق الحق،وإزهاق الباطل وفق حاكمية السنن،وقاهرية الأسباب،وليس وفق قاهرية الدول وطغيانها!وكم من حضارة أنبأ الله تعالى عنها،كأن لم تغن بالأمس، فدمّر الله عليها:"وللكافرين أمثالها،"حقًا،وعدلًا،وصدقًا!؟
بقلم أ.د.فرح موسى:رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان