﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]
القرآن الکریم لا يُؤسّس لسلام الخوف، ولا لذلّ الانكسار، بل لسلام العزّة المبصِرة، وسكينة القلوب القوية. فـ"السِّلم" في منطق هذه الآية ليس توقيع هدنة بأيدٍ مرتجفة، بل هو خيار من عرف متى يفتح باب الرحمة، ومتى يُمسك سيف العدل.
حين يجنح الآخرون إلى السلم، لا يُقال لك: راقب نواياهم، ولا تَخَف من غدرهم، بل قيل لك: توكل على الله.
هنا مركز القوة: ليس في الحصون ولا في اتفاقات الطاولة، بل في قلوبٍ متصلة بالسماء، لا تهزّها الأرض.
ليس في السِّلم ما يَعيب، بل فيه سرٌّ من أسرار الربوبية:
إقرأ أيضاً:
فالله الذي أمر بالقتال في موضع، هو ذاته من أمر بالسلام حين تنكسر شوكة الحرب.
لكن شتّان بين سلمٍ نابعٍ من هوان، وسلمٍ يخرج من عزّة الواثقين بالله.
السِّلم لا يعني التنازل عن المبادئ، بل هو أحيانًا فنّ حماية المبادئ من أن تُستنزف في المعارك.
هو وقفة تأمل في منتصف الميدان، لا انسحابًا ولا فرارًا، بل قرارٌ استراتيجي ينبع من موقع القوّة:
أن أملك أن أضرب، لكنني أختار أن أسمو.
فالقرآن لم يقل: إن خفتم، فسالموا…
بل قال: ﴿إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ أي إن هم أبدوا رغبة، فلك الخيار إن كنت صاحب عزّة.
وهنا درسٌ لكل قائد ومصلح ومجاهد في معركة الحق:
السلام حين يأتي من عدوٍّ قد انهكته المعركة، لا ترده كرهًا، ولا تقبله عن ضعف.
اجنح له، كما يجحن الطائر بثقة إلى مأمنه، واسمُ بأجنحتك فوق الضغائن، متوكّلًا على من يسمع كل همسة، ويعلم كل نية.
إنه سلام الأقوياء، لا استسلام الضعفاء.
سلام من حمل سلاحه لله، فإذا وضَعه، أبقاه على قلبه، لا على الأرض.
سلام من كانت يده ممدودة، وقلبه معقود بالتوكّل، وروحه مشبعة باليقين أن الله سميعٌ لندائه، عليمٌ بموقفه.
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري