
"بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
حين نتأمل في ثورة
الإمام الحسين(عليه السلام)، لا نراها مجرد مواجهة مسلّحة بين مظلوم وطاغية، بل نراها نورًا انبثق من قلب السماء ليوقظ الضمير البشري الغافي في ليل الاستبداد.
إنها لم تكن ثورة في وجه الظلم فحسب، بل نهضة إنسانية ذات جوهر أخلاقي عميق، قصد بها الحسين(عليه السلام) إحياء القيم التي كادت تضمحل في زمانه، بعد أن أماتها الطغيان، وسحقها الجهل، وداستها شهوة السلطان.
إقرأ أيضاً:
لقد جاهد الإمام الحسين(عليه السلام) لا بالسيف فقط، بل بجمال الروح، وعظمة الخُلق، وسموّ الموقف، فكانت كربلاء منارة للأخلاق قبل أن تكون ميدانًا للشهادة.
1. الأخلاق كمحرّكٍ للثورة: ثورة من أجل القيم لا الذات
لقد أعلن منذ البدء أن غايته ليست السلطة ولا الانتقام، بل إعادة الميزان الإلهي إلى نصابه، وإنقاذ الأمة من الانحدار الأخلاقي والضياع العقائدي.
قال(عليه السلام): "ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًّا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما".
بهذه الكلمات المضيئة، وضع الإمام معيارًا جديدًا للكرامة الإنسانية، حيث تصبح الحياة بلا حقّ موتًا ذليلًا، ويصير الموت في سبيل العدل حياة خالدة.
2. الرحمة في ذروة المواجهة: الحسين(ع) يسقي قاتليه
ما أعظم ذلك المشهد الذي سُقِيَ فيه جيش الحرّ بن يزيد — وقد جاء لمحاصرة الحسين(ع) — من قِبَل الإمام وأصحابه، فسقوهم حتى دوابهم!
أي عظمة خُلقية تجسدت هنا؟ أي قلبٍ نقيّ يسكن هذا الإنسان السماوي؟
لم يرَ الحسين(عليه السلام) في خصومه مجرد أعداء، بل رأى فيهم ضحايا التزييف والتضليل، فخاطبهم بخطاب الوعي، وناداهم إلى الرشد، وفتح لهم باب التوبة، قبل أن تفتح السماء أبواب الشهادة.
3. القيادة بالمحبة لا بالقهر: الإمام(ع) وأصحابه في ليلة العاشر
في أسمى مشهد من مشاهد القيادة الأخلاقية، وقف الإمام الحسين(ع) يخاطب أصحابه وأهل بيته ليلة العاشر من المحرّم قائلاً: «ألا وإني قد أذنتُ لكم، فانطلقوا في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا.»
لم يُرِد أتباعًا يخافون من لومة القتال، بل أراد أنصارًا يؤمنون بقضيتهم إيمانًا حرًّا، لا أن يُقاتل باسمه من يقاتل خوفًا أو طمعًا.
وهكذا، لم تكن قيادته قسرًا ولا تغريرًا، بل شفافية ومحبة، تنبع من يقين الصادقين. وهذا ما زادهم ثباتًا، فالإقناع يحيي النفوس، بينما القهر يميت القلوب.
4. الرقيّ الأخلاقي في لحظات النزف
حين استشهد القاسم بن الحسن، لم ينبس الإمام بكلمة غضب، بل عبّر عن وجع الموقف بعبارات مفعمة بالحزن والعزيمة: «عزَّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك…»
ثم لما قُتل الرضيع، لم يشهر الحسين سيفًا، بل رفعه إلى السماء قائلًا: «هون ما نزل بي أنه بعين الله.»
إنها لحظة يتجسّد فيها اليقين حتى في أشد صور الألم، ويتحوّل النزف إلى تسليم، والمأساة إلى صلاة.
5. الحسين(عليه السلام): مظهر الإنسان الكامل
تُجسّد شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) أعلى مثال للإنسان الكامل في المنظور الإسلامي، حيث تندمج فيه أبعاد العقل، والروح، والإرادة، والعقيدة، والأخلاق.
هو ذلك الإنسان الذي لا تفصله المعركة عن القيم، ولا تفصله الشريعة عن الرحمة، ولا تفصله العقيدة عن الإنسانية.
وفي هذا المقام قال جده صلى الله عليه وآله:
«حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا.»
لم يكن "حسين كربلاء" فقط، بل "حسين الرسالة"، و"حسين الوجدان"، و"حسين الخلق".
الخاتمة: كربلاء، مدرسة الأخلاق الخالدة
إن البعد الأخلاقي في ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) يؤكد أن كربلاء لم تكن مجرد معركة بالسيوف، بل كانت أعظم تظاهرة إنسانية للضمير الحيّ، ومدرسة تربوية للنفوس التي تطمح إلى الحرية والكرامة.
الحسين(ع) لم يُقابل الطغيان بالدم فحسب، بل قابله بالأخلاق، وعلّم البشرية أن الطريق إلى النصر يبدأ من صفاء القلب، لا من حدّ السيف.
فما تزال كربلاء إلى يومنا هذا ميدانًا تتخرّج منه الأرواح الحرة، وتُختبر فيه الضمائر، ويُقاس فيه الشرف لا بعدد القتلى، بل بمدى صلابة الموقف وسموّ الخُلق.
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري