ليست هذه الليلة كأي ليلة…إنها ليلة الوداع.
وداع ليس ككل وداع، إنه وداع الأرواح للدنيا، وداع الفانين للباقي، وداع الأجساد للتراب، وارتقاء الأرواح نحو الملكوت ورب الأرباب.
في هذه الليلة…لم يكن هناك متسع للخوف، ولا مكان للتردد. الكل قد عقد قلبه ووقّع عهده بدمه ودمعه. إنهم أصحاب الامام الحسين (ع) الذين شهدت لهم السماوات والأرض بالوفاء والصدق.
يا لها من ليلة…تغفو فيها الأرض وتفيق السماء. ليلٌ ارتفع فيه أنين الدعاء، وانبعثت تلاوات القرآن، وانتشرت رائحة الإخلاص واليقين.
كلّ وجه كان يشع نورًا، كل عين تلمع بالبكاء والرجاء، كل قلب أصبح محرابًا تتجلى فيه أسماء الله الحسنى.
كانت العيون تدمع…لكنها ليست دموع الوجل من الموت، بل دموع الشوق للقاء.
إقرأ أيضاً:
وكانت القلوب تتفطر… لكنها ليست لوعة الفراق من الدنيا، بل حرارة الاشتياق إلى محضر الله، إلى مقام الشهادة، إلى لقاء جدّ الحسين (صلى الله عليه وآله) وأبيه وأمه وأخيه.
أيّ قلوبٍ تلك؟! وأيّ أرواحٍ تلك التي تشتاق إلى الموت كما يشتاق الطفل إلى ثدي أمه؟
لم تكن هذه الليلة سوى ليلة العروج الأعظم، حين اختارت النفوس أن تهاجر إلى بارئها طوعًا، وتُقبل على الذبح كقربان على مذبح العشق الإلهي.
ليلة عاشوراء…حيث تسامى الإنسان فوق كل رغبة دنيوية، وفوق كل هوى، وفوق كل قيد. فمن لم يكن حرًّا في دنياه، لن يكون حرًّا بعد مماته.
وأصحاب الحسين (ع) كانوا أحرارًا، بل سادة الأحرار.
كانوا يرون الجنة رأي العين…كانوا يسمعون الملائكة تتنزل بالبُشرى… كانت قلوبهم مقامات ذكر لا تفتر، وألسنتهم تسبيح لا ينقطع، وأرواحهم أجنحة نور تحلّق في أفق الرضا.
وفي الجانب الآخر…هناك قوم تعلّقت قلوبهم بالطين، وغرقت نفوسهم في ظلمات الدنيا، حتى صاروا أداة في يد الشيطان، يبيعون الآخرة بلقيماتٍ زائلة.لقد كتبوا على جباههم خزي الأبد، ولعنة الدهور.
وفي فجرها…سيلتقي الدم بالسيف، ويلتقي الوفاء بالخيانة، ويلتقي الخلود بالفناء. وسينتصر الدم، وسيُرفع رأس الحسين على الرمح ليكون منارة لا تنطفئ، وشعلة لا تخبو، وسفينة نجاة لا تغرق.
سلامٌ على تلك الليلة…سلامٌ على تلك القلوب التي استودعت الله سرّها، وسلامٌ على كل عينٍ سهرت تبكي الامام الحسين(ع)، وسلامٌ على كل روحٍ تفطر قلبها حزنًا واشتياقًا.
وسيبقى النداء: هيهات منا الذلة… يرتفع ما دام في الأرض قلب ينبض بحب الحسين(ع). من كربلاء الدماء والفداء
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري