
"بسم الله الرحمن الرحیم
في كلّ ثورةٍ عظيمة، يُضاء جانبٌ وتُخفي العيون جوانبَ أُخر، وقد يسطع السيف وتخفت الكلمة، وقد يُذكَر القادة وتُنسى الظلال التي حمَلَت الأمانة يوم عزّ النصير.
لكنّ كربلاء ليست ثورةً كسائر الثورات، إنها صرخة التاريخ الكبرى في وجه الطغيان، وهي الوحيدة التي جعلت من الدم منبرًا، ومن الخيمة إعلامًا، ومن الأسى نورًا، وفي صلب هذا كلّه... كانت المرأة، النصف الخالد في ملاحم الرجال.
أولاً : المرأة في كربلاء... ليست باكية بل باصرة
ليست المرأة في كربلاء ذاك الكائن الضعيف الذي انهار عند المصيبة، بل كانت ركنًا من أركان الخطة الإلهية لإحياء الدين.
إقرأ أيضاً:
لم تكن المرأة في كربلاء مجرّد مرافِقة للركب الحسيني، بل كانت صاحبة موقف، حاملة للرسالة، ناشرة للحق، ومثبّتة لأركان العقيدة.
ثانياً: السيدة زينب (ع)... سيدة الطف وحاملة رسالة الحسين(ع)
وحدها زينب، ابنة علي وفاطمة، التي تكسّرت فيها كلّ موازين الضعف البشري، ووقفت في مجلس يزيد كأنها رسولُ الثورة بعد شهيدها.
بصوتها، هزّت عرش الدم... قالت له: "فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا..." فجعلت من عاشوراء منبرًا خالدًا في ضمير الزمن.
قادت النساء والأطفال في طريق السبي، تحمّلت آلام الحريق والعطش وفقد الإخوة والأبناء، لكنها كانت صخرةً، كانت رسالةً تمشي على الأرض.
ثالثاً: أم وهب... الدماء لا تخيف الرساليات
جاءت من خارج الكوفة، لكن قلبها سبقها إلى الطف، زوجها عبد الله بن عمير النصراني، قاتل حتى قُتل، فألقت بنفسها على جسده، وقاتلت حتى نالت الشهادة.
قالت: "قاتِلْ دون الطاهرين، ذرية رسول الله!" أيّ امرأة تلك؟! لم تبكِ فقط، بل تحولت إلى دم يجري في عروق الثورة.
رابعاً: سكينة بنت الحسين... الناطقة باسم الشباب الرسالي
هي الروح الشفافة التي جمعت الحكمة من جدّها، والبلاغة من أبيها، والشجاعة من أمها زينب(س). حملت همّ كربلاء في قلبها، وكانت شاعرة الوجع، وراوية العظمة، وملهمة الأجيال.
في كلّ نظرة من نظراتها، كان الطف يُعاد، وفي كلّ تنهيدة منها، كانت تخاطب عروش الظلم: "نحن أبناء الحسين، ما مات أبونا!"
خامساً: رباب... أمّ الرضيع، ومرآة الصبر المقدّس
وقفت عند جسد الرضيع المذبوح... لم تصرخ، لم تتهور، بل ثبّتت قلب الحسين بصمتها.
وبعد كربلاء، رفضت الدنيا كلّها، رفضت الطعام والراحة، وعاشت عامًا كاملاً تبكي الحسين قرب قبره، ثم ماتت كمداً... ماتت من الوفاء.
سادساً: أم البنين... الغائبة الحاضرة في كل دمعة
لم تكن في كربلاء بجسدها، لكنّها كانت هناك بأربعة من فلذات كبدها، يتقدمهم قمر العشيرة.
حين جاءها الناعي، لم تسأل عن العباس أولاً، بل قالت: "أخبرني عن الحسين، فإن أبناءي فداء له!" أي عظمة هذه؟ أي قلب يسع هذا النور؟ كانت أمًّا... لكنها أمُّ الرسالة قبل أن تكون أمًّا للأبناء.
سابعاً: دلهم بنت عمرو (زوجة زهير بن القين)... مؤلِّفة المصير:
حين تردد زهير في الالتحاق بالحسين، قالت له: "أتدع ابن بنت رسول الله ويُقتل وأنت جالس؟!" كلمات قليلة... لكنها غيّرت مصير رجل، وغيّرت تاريخًا.
نعم ايها الأحبة: هكذا كانت المرأة في كربلاء... ليست راويةً للدمع، بل شريكة في الدم، وليست متفرجةً على المأساة، بل صانعة للموقف، وليست باكيةً على أنقاض العزّ، بل بانية لخلود الأمة.
كربلاء لم تُروَ برجالها فقط، بل خُطّت أيضًا بأنفاس زينب، ودموع سكينة، وصبر الرباب، وصرخة أم وهب، وعزيمة أم البنين، وحكمة أم كلثوم.
اخيراً نقول:
يا من تبحث عن الثورة في لهيب السيوف، انظر إلى عيون زينب في مجلس يزيد، ففيها ثورة لا يطفئها زمان، وفيها دولة لا يسقطها طغيان.
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري