دعونا نتحدث بصراحة ودون مواربة أو لبس للكفوف، ما شهدته السويداء مؤخرًا ليس مجرد حادثة أمنية عابرة، بل هو كشف فاضح لمخطط يُراد منه إعادة رسم خريطة العالم العربي ليعود خاليًا من الأقليات، تمامًا كما كان قبل قرون. وهذا الإنذار لا يخص الدروز وحدهم، بل يطال كل الأقليات، بما فيها المسيحيون.
اليوم، في ظل المتغيّرات التي تعصف بخرائط العالم العربي، وانهيار منظومة الدول التي كانت تحترم القانون والحدود الدولية، لم يعد هناك ما يُسمّى "طوائف قوية" أو "طوائف فاعلة".
والدليل؟ مجرّد "فزعة" واحدة، نجحت في تحشيد أكثر من 300 ألف مقاتل من البدو ومعهم أجانب ضد أقليّة درزية. بل انتشرت عبر وسائل التواصل دعوات ومقاطع تؤكد أن عشائر بدوية من مختلف الدول العربية بدأت تجهيز نفسها للدخول إلى سوريا، لقتال هذه الأقليّة الدرزية في السويداء.
إقرأ أيضاً:
الحقائق على الأرض صارخة ومؤلمة. بدأت الشرارة بحوادث خطف واعتداءات متبادلة، سرعان ما تم استغلالها لتتحول إلى حرب شاملة.
ويعترف الجميع بأن القوة المقاتلة الفعلية لدى مشايخ الكرامة في السويداء لا تتجاوز 15 ألف شخص. في المقابل، حشد اكثر من 300 الف مقاتل من البدو على راسهم قيادات قوقازية وشيشانية من كافة المناطق السورية، والجحافل التي وصلت السويداء تقدر بأكثر من 70 ألف مقاتل من العشائر، مدججين بالسلاح، لفرض حصار مطبق على المحافظة، قاطعين عنها الإنترنت والكهرباء والماء في أزمة إنسانية خانقة.
واستغرق إعلان وقف إطلاق النار أكثر من 48 ساعة، وهي مدة كانت كفيلة بإبادة الآلاف، وقد سقط فيها بالفعل مئات القتلى حسب تقديرات المراصد الحقوقية، لولا تدخل دولي متأخر لدى الحكومة السورية لوقف حرب تُشن على مواطنين سوريين.
وهنا تتكشف الحقيقة المرة: لقد أصبحت الأقلية الدرزية ورقة ابتزاز. فبينما كانت دمشق تنفي رسميًا أي تورط وتلقي باللوم على "مجموعات مسلحة خارجة عن القانون"، كانت الدول الفاعلة تدرك تمامًا أن حشد العشائر وتسليحها وتأمين وصولها لم يكن ليتم لولا ضوء أخضر، بل وتخطيط مباشر، من النظام الذي أراد تلقين الدروز درسًا قاسيًا. فقد تحول الصراع إلى مسرح دولي، حتى إن إسرائيل تدخلت بشن غارات جوية بذريعة حماية الأقلية الدرزية، مما يؤكد أن القضية تجاوزت حدودها المحلية بكثير.
لقد وقع المحظور وسُفك الدم بين أبناء الشعب الواحد. أصبح الدروز في نظر شريحة واسعة من السوريين أعداءً، وسيحتاج إصلاح هذا الشرخ، ولو شكليًا، إلى زمن طويل جدًا. هذه المعركة سيكون لها تداعيات كارثية مع قادم الأيام، عندما تبدأ العشائر والدروز بدفن موتاهم، حيث سيتعمق الثأر وتتسع الهوة، وتترسخ عقدة الخوف من الآخر بشكل يصعب تجاوزه.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل حرائق سوريا الطائفية بعيدة عن لبنان؟ أم أن لبنان ينتظر حصته في الأيام القادمة؟ هل سيتعظ لبنان ويدعو فورًا إلى لقاء وطني موسع لمعالجة القضايا الشائكة التي، في ظل هذه المتغيرات، تجعل من تحذير المبعوث الأمريكي حقيقة ماثلة؟ فها هو المبعوث الأمريكي توماس باراك يحذر صراحة من أن لبنان يواجه "تهديدًا وجوديًا" وقد يعود ليصبح جزءًا من "بلاد الشام"، رابطًا هذا المصير بضرورة معالجة أزماته الداخلية الكبرى.
ما الذي يمنع اليوم أن يتحول أي خلاف بسيط في لبنان، خلال ساعات قليلة، إلى "فزعة" ينادي لها البعض في لبنان، وتتحول هذه الفزعة إلى دعوة بدوية تجتاح الشمال، ويلبيها مئات الآلاف من النازحين السوريين الذين يشكل البدو غالبيتهم؟ حينها سيدخل لبنان في فوضى لن تتوقف حتى لو تدخلت كل أمم الأرض.
ماذا سيفعل الأمريكي والفرنسي حينها؟ إذا كانوا في سوريا قد احتاجوا لأكثر من 72 ساعة وتدخلات دولية وإقليمية متعددة لوقف إطلاق النار بعد سقوط مئات الضحايا، فهل يتحمل لبنان، بمساحته الصغيرة وتركيبته الهشة، 72 دقيقة من القتال الشامل قبل الإعلان عن انهياره الكامل؟
على جميع اللبنانيين التحرك، وبسرعة قصوى. فالخطر لم يعد على الأبواب، بل أصبح داخل البيت. وما تحدث عنه المبعوث الأمريكي لم يعد مجرد تحليل سياسي، بل يكاد يكون واقعًا نراه رأي العين.
كما أن العالم ليس متضررًا ولا منزعجًا من انشغال العرب بحروبهم الداخلية والطائفية، ريثما تُباد فلسطين ويُذبح شعبها. بالختام نتمنى ان نسمع "فزعة" بدوية عشائرية لتحرير وانقاذ فلسطين.
بقلم الکاتب والمحلل السیاسي اللبناني "الدكتور ناجي علي أمهز"