ایکنا

IQNA

القرآن وأزمة الحداثة الغربية.. نحو إعادة صياغة المفاهيم

9:31 - October 11, 2025
رمز الخبر: 3501959
إکنا: تتجسد الحداثة الغربية كمشروع حضاري طموح يحمل في ظاهره وعود التقدم والحرية، لكنه يكشف في باطنه عن تناقضات عميقة تكاد تهدد جوهر الإنسانية.

فهذه الحداثةـ بتأسيسها على العقلانية المجردة، والعلمانية المفرطة، والفردانية المطلقة ـ قد أنجزت مكاسب مادية وتقنية هائلة، لكنها أغرقت الإنسان في فراغ وجودي، وقلق أنطولوجي، واغتراب شامل يتجاوز حدود النفس إلى نسيج المجتمع وعلاقته بالكون.
 
إن هذا المشروع، الذي رفع لواء العقل كإله جديد، وأقصى الروح والغيب عن مركزية الحياة، لم يفشل فقط في الإجابة عن الأسئلة الجوهرية للوجود، بل أفرز أزمات متشابكة – أخلاقية واجتماعية وبيئية- تكشف عن إفلاسه الحضاري.
 
في هذا السياق، يبرز القرآن الكريم كمصدر معرفي وروحي متكامل، يقدم رؤية كلية للوجود، قادرة على نقد أسس الحداثة، وتفكيك تناقضاتها، وإعادة صياغة مفاهيمها بما يُعيد للإنسان كرامته ككائن متصل بالمطلق، ويؤسس لمشروع حضاري يوازن بين المادة والروح، والفرد والجماعة، والحاضر والمستقبل.

إن جوهر أزمة الحداثة يكمن في نزعتها العلمانية التي فصلت الإنسان عن مصدر وجوده الأعلى، مقلِصة المعرفة إلى ما يمكن إدراكه بالحواس والعقل التجريبي.
 
هذا الفصل لم يكن مجرد منهج معرفي، بل تحول إلى أيديولوجيا ترفض الغيب وتُهمش الروح، مما أدى إلى تقويض الأسس الأنطولوجية التي يقوم عليها فهم الإنسان لذاته.
 
يشير الفيلسوف الغربي "مارتن هايدغر" إلى هذه الأزمة في نقده للحداثة، حيث يرى أن الإنسان الحديث أصبح «منسيَ الوجود» إذ فقد الاتصال بالوجود الأصيل؛ بسبب هيمنة التفكير التقني الذي يختزل العالم إلى مجرد مورد قابل للاستغلال. ويتجلى هذا الاختزال في العقلانية الحديثة التي تجاهلت السؤال الجوهري: «لماذا الوجود لا العدم؟»، واستبدلته بتساؤلات نفعية ضيقة.
 
على النقيض، يقدم القرآن الكريم رؤية أنطولوجية متكاملة ترى الكون آية تشير إلى خالق مدبر، كما في قوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت، وإلى السماء كيف رُفعت، وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيف سُطحت} (الغاشية: 17-20).
 
هذه الدعوة إلى التدبر ليست مجرد تأمل حسي، بل هي استدعاء لاستعادة الاتصال بالوجود الأعلى، وهو ما يتجاوز حدود العقلانية الحديثة التي أغرقت الإنسان في الحسيات دون أن تقدم له إجابات عن معنى وجوده.
 
وقد ارتبط هذا الانفصال بنزعة الفردانية التي شكلت العمود الفقري للحداثة، إذ احتفت بالفرد كمركز للكون مفصول عن نسيجه الاجتماعي والروحي.
 
غير أن هذا التحرر المزعوم لم يُنتج سوى اغتراب عميق، حيث أصبح الإنسان كائنا معزولا يعاني من الوحدة والقلق الوجودي. ويتردد صدى هذا النقد في فلسفة هايدغر، الذي يصف الإنسان الحديث بأنه «ملقى في عالم بلا معنى، يفتقد إلى الانتماء الأصيل».
 
في المقابل، يقدم القرآن تصوراً مغايراً للإنسان بوصفه جزءا من كلية اجتماعية وروحية متماسكة تُعرف بـ«الأمة»، التي تجمع بين الفرد والجماعة في إطار من التكامل والمسؤولية المتبادلة. يقول تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 143).
 
وهنا يبرز مفهوم «الأمة» كبديل للفردانية المعزولة، حيث يتحقق الفرد في إطار الجماعة، وتتجلى مسؤوليته تجاه الآخرين كجزء من عبوديته لله. هذا التصور يعيد بناء الروابط الاجتماعية التي فككتها الحداثة، ويستعيد الإحساس بالانتماء والمعنى.
 
ومن جهة أخرى، أفرزت الحداثة ثقافة استهلاكية حولت الإنسان إلى كائن يعيش للمتعة المادية، مما أدى إلى فراغ روحي عميق.
 
هذا الفراغ يعيد إلى الأذهان ما أشار إليه الفيلسوف العربي ابن رشد في دفاعه عن التكامل بين العقل والدين، حيث رأى أن العقل البشري إذا انفصل عن الغايات الروحية فقد قدرته على إدراك الحقيقة الكلية.
 
ففي كتابه فصل المقال يؤكد ابن رشد أن «الحق لا يضاد الحق»، وأن العقل والنقل (الوحي) متكاملان في السعي نحو الحقيقة.
 
وهذا يتسق مع الرؤية القرآنية التي تدعو إلى التوازن بين الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: {وابتغِ فيما آتاك اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبك من الدنيا} (القصص: 77).
 
فهذه الدعوة ليست رفضا للتمتع بالحياة، بل هي تأسيسٌ لنظام قيمي يضع المادة في إطار الغايات العليا، مانعا الإنسان من الانزلاق إلى عبودية الشهوات أو الجشع.
 
إن هذه الأزمات- الفراغ الروحي، والاغتراب الفردي، والاستهلاكية المفرطة – تكشف عن إفلاس المشروع الحداثي في تحقيق الرفاه الإنساني الحقيقي.
 
فالعلمانية التي وعدت بالحرية أنجبت عبودية جديدة للسوق والمادة، والفردانية التي بشرت بالتحرر أفرزت وحدة وقلقا، والرأسمالية التي ادعت الرفاه أنتجت تفاوتا طبقيا وتدميرا بيئيا يهددان استدامة الحياة.
 
وقد أشار هايدغر إلى هذا التدمير في نقده للتقنية الحديثة التي يراها تهديدا للوجود الإنساني الأصيل، بينما قدم ابن رشد- من منظوره الإسلامي – إطارا معرفيا يتجاوز هذه الثنائيات عبر التكامل بين العقل والوحي.
 
وهنا يبرز القرآن الكريم كمصدر لإعادة صياغة المفاهيم الأساسية التي تحكم الحياة الإنسانية.
 
ففي المعرفة، يقدم القرآن منهجاً تكاملياً يرفض الفصل بين العقل والوحي، داعيا إلى التدبر في الكون والنفس كآيات تشير إلى الحقيقة المطلقة، كما في قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت: 53).
 
وفي الأخلاق، يؤسس القرآن لنظام قيمي يقوم على التقوى والعدل، متجاوزا النفعية الحديثة التي تقيس القيم بمعايير مادية.
 
وفي الحرية، يقدّم القرآن حرية مقيدة بالمسؤولية تجاه الله والمجتمع، تحرر الإنسان من عبودية الأهواء وتمنحه معنى أعمق لوجوده.
 
وإعادة صياغة هذه المفاهيم لا تعني رفض التقدم العلمي أو التقني، بل دمجه في إطار حضاري يستلهم القرآن كمصدر للتوجيه.
 
وهذا الإطار يتطلب بناء منهجية معرفية تتكامل فيها العلوم الطبيعية والإنسانية مع الوحي، وإحياء مفهوم الأمة كبديل للفردانية، وتبني نهج استدامة يستلهم الرؤية القرآنية للتوازن البيئي والاقتصادي، كما في قوله تعالى: {ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} (الأعراف: 56).
 
إن هذا المشروع الحضاري البديل لا يسعى إلى العودة إلى الماضي، بل إلى استشراف مستقبل يجمع بين الأصالة والمعاصرة، حيث يستعيد الإنسان كرامته كخليفة في الأرض، ويعيش في انسجام مع ذاته ومجتمعه وكونه.
 
إن أزمة الحداثة الغربية ليست مجرد أزمة فكرية أو اجتماعية، بل أزمة وجودية تعكس انفصال الإنسان عن مصدر وجوده ومعناه. والقرآن- بوصفه كلام الله – يقدّم رؤية كلية قادرة على تجاوز هذه الأزمة.
 
إن هذا التحدي يتطلب جهداً فكرياً وعملياً لتطوير مشروع حضاري يستلهم القرآن كمصدر حي للمعرفة والتوجيه، قادر على إنقاذ الإنسانية من أزماتها وتحقيق غايتها السامية في العبودية لله والإعمار في الأرض.
 
بقلم الصحفي العراقي "أنس الربيعي"
 
المصدر: الجزيرة  نت 
captcha