ایکنا

IQNA

الأقليات خاصة العلويين والدروز بين مطرقة التكفير وسندان السياسة

14:19 - December 31, 2025
رمز الخبر: 3503026

بقلم الكاتب والمحلل السياسي اللبناني الدكتور ناجي علي أمهز

في المشرق العربي، ثمة جرحٌ نازف يتجاوز حدود السياسة ليضرب في عمق الكرامة الإنسانية. ما تتعرض له الأقليات اليوم فاق كل التصورات، وكسر القواعد الأخلاقية التي عرفتها البشرية حتى في أحلك عصورها وسواد جهلها وتخلفها. فنحن نعيش في بقعة من العالم سقطت فيها قيم "المواطنة" أمام طغيان "الهوية الطائفية"؛ فبينما تقيس الأمم المتحضرة أفرادها بميزان الكفاءة والعدالة، نصرُّ نحن على قياس الإنسان بميزان نسبه وحسبه وانتمائه المذهبي.
 
إنها معضلة وجودية بامتياز؛ فلو كنت "أينشتاين" زمانك ونبغت علماً وفكراً، تظل في نظر هذا المجتمع محكوماً بإطار طائفتك الضيق. 
 
هنا، لا قيمة للعقل أمام صخب الانتماءات العمياء، وهذا ما يطرح التساؤل المرير دائماً: كيف سنبني أوطاناً أو نؤمن بغدٍ، ونحن نحول كل منعطف وطني إلى ساحة قتال وجودي، يجعل من الموت نفسه تفصيلاً بسيطاً أمام رعب الفناء المستدام؟

انظروا إلى مآسينا بعيون الحقيقة: ما ذنب المصلين في "حمص" ليُستهدفوا بتفجيرات إرهابية غادرة تحت لافتة أنهم "علويون كفرة"؟ وما جريره أهل "السويداء" ليوصفوا بـ"الكفار"؟ حتى الفرح الإنساني البسيط لم يسلم، فأصبحت التهنئة بعيد الميلاد – ذاك الرمز لمجد الإنسانية الأول – جُرماً بذريعة "عدم جواز التشبه بالمشركين". وبينما يغزو العالم الفضاء ويطوع الذكاء الاصطناعي لخدمة البشرية، تتقوقع عقولنا في زوايا التكفير المظلمة، مستنزفة طاقة الأمة في صراعات عبثية لا تقتل إلا الوجود.
 
وفي المقابل، نجد في المشهد العام استعراضات "العيش المشترك" وشعارات "عاش الهلال مع الصليب"، وهي لقاءات تذكرنا بفيلم "حسن ومرقص" أكثر مما تعكس واقع الأرض؛ فلا شيء يتغير في النفوس. الحقيقة المرة هي أن الأقليات الإسلامية من شيعة وعلويين ودروز، لا يحمل فكرهم بذرة التكفير الديني تجاه الآخر، ومع ذلك يجدون أنفسهم في مواجهة آلة تعبئة ضخمة، حيث يجد الطرف الآخر ألف فتوى ورجل دين لتعمية القلوب، في جدليات دينية لن تنتهي حتى انتهاء الدنيا، يغذيها اعتقاد واهم بأن الله لن يغفر إلا لمن ينتمي لهذا المذهب أو ذاك.
 
وأمام هذا الواقع المرير، لم يبقَ للأقليات العلوية من خيارٍ سوى السعي نحو الحكم الذاتي كدرعٍ لحماية الوجود، على غرار القرار التاريخي الذي اتخذه الدروز لمواجهة خطر الإبادة المحدق. أما الشيعة والمسيحيون، فرغم محاولاتهم المستميتة للحفاظ على دورهم التاريخي وسط أمواج الأكثرية، إلا أن الكارثة تكمن في عجزهم عن التوحد بين بعضهم حول صيغة نهائية ورؤية مشتركة تضمن بقاءهم وتحفظ دورهم المشرقي الأصيل.، والا وجودهم ايضا مهدد.
 
هذه المعضلة لم تبقَ حبيسة أروقة الاستراتيجيات، بل تمددت لتصل إلى دهاليز "البنتاغون" وأروقة "الكونغرس". وهنا تبرز الإشكالية الكبرى: هل "داعش" صناعة أمريكية؟
 
كثير من المسلمين، في محاولتهم لتبرئة الإسلام من وحشية التنظيمات التكفيرية، سارعوا لاتهام واشنطن بالصناعة الكاملة لهذا الفكر. لكن القراءة العميقة للنظام العالمي تكشف تعقيداً أكبر؛ فالعالم يُدار بتوازن دقيق يشبه "تقنية النانو" لضبط إيقاع ثمانية مليارات إنسان ومنع الفوضى الشاملة. هذا التوازن يتطلب وجود نقيضين في صراع دائم، لضمان استمرار المصالح وفق الرؤية الأمريكية والعالمية.
 
في السياسة الأمريكية، نجد تقسيماً واضحاً للأدوار: الحزب الجمهوري يميل تاريخياً لدعم "الأكثريات" في المنطقة، بينما يتبنى الحزب الديمقراطي "الأقليات". وعندما تميل الكفة لصالح طرف، يأتي التغيير في واشنطن ليعيد التوازن؛ فوصول الديمقراطيين يهدف لتقوية الأقلية، ووصول الجمهوريين يهدف لتمكين الأكثرية، في دوامة لا تنتهي.
 
إلا أن القصة مع "الإسلام المتشدد" اتخذت منحىً مغايراً؛ فحين عجزت الأقليات عن إنتاج سلطة قوية تضمن التوازن الدولي كما تشتهيه واشنطن، قرر صناع القرار تغيير اللعبة. لم يعد الصراع بين "أقلية وأكثرية"، بل انتقل ليصبح صراعاً "داخل الأكثرية نفسها"، ليكون الانقسام أوضح والمعركة أشرس، كما نرى اليوم في انقسامات الفصائل المتشددة في سوريا.
 
لقد أراد الحزب الديمقراطي، وريث "الاستشراق البريطاني" بعمقه الديني والاجتماعي، أن يقدم دليلاً للعالم بأن فكرته في دعم الأقليات هي الضرورة الوحيدة للاستقرار. فقام بما يشبه "إطلاق العنان" للإسلام المتشدد، موفراً غطاءً غير مباشر لتجمعاتهم، وكأنه يقول للعالم: "هذا هو الشرق الأوسط من دون دور الأقليات.. انظروا ماذا سيفعل هؤلاء". وبالفعل، خرجت "القاعدة" من رحم التشدد الأفغاني، ثم ولدت من رحمها "داعش" لترتكب الفظائع، ولا أحد يعرف اليوم ماذا سيولد من رحم داعش.
 
إذاً، هل صنعت أمريكا "داعش" في مختبراتها؟ الحقيقة أنها لم تصنع الفكر، بل "أطلقت يده" ليمارس شريعته كما يراها. داعش ليست صنيعة استراتيجية بحتة، بل هي وليدة فكر محلي يرفض الآخر ويكفره لمجرد الاختلاف، فهل كانت امريكا موجودة عندما اباد المماليك الشيعة في سوريا ولبنان بسبب فتاوي كفرتهم. أمريكا فقط رفعت السد وتركت الفيضان يجرف الجميع، لتثبت نظريتها في إدارة الصراع وتؤكد أن البديل عن التوازنات الحالية هو وحشية لا تعرف حدوداً اخلاقية او حدودا دولية.
 
إن المواجهة الحقيقية لا تدور حول داعش بل كيف نلغي النصوص التي تستغلها داعش، "التي تجعل العقل" يقبل أن يكون أداة للقتل، ومع الثقافة التي تلغي "الإنسان" لتُحيي "فكرة اصبحت مرعبة، مؤلمة، فانية، اكثر من الموت".
 
فمن المعيب أن يتحدث العالم عن حقوق الإنسان، بل وحقوق الحيوان، بينما هو عاجز على الوقوف في وجه هذا الموت التكفيزي، الذي يقود الأمة والحضارة والتطور والانسانية نحو المقابر وهم لا يزالون أحياءً.
captcha