
لا يمكنك أن تعيش في عُزلة عن الناس، فأنت كائن اجتماعي، تحتاج إليهم لتأنس بهم، والأُنسُ حاجة، ولا يمكنك أن تستغني عن الناس فأنت محتاج إليهم وهم محتاجون إليك، لكل منكم قابلياته وطاقاته، وكل منكم يخدم الآخر بما أوتِيَ من عِلم وخِبرة وقُدرة.
وهذا يوجِبُ عليك بناءَ عَلاقات معهم، وكلما كانت العَلاقة معهم متينة ارتحت وارتاحوا، واطمأننتَ واطمأنوا. فإن ظَنَنتَ إمكان الاستغناء عن ذلك جانبتَ الصواب، أو كنت مغروراً، والغُرور حُمْق وغَباء.
وإن ظَنَنتَ أن العثور على صديق صَدوق أمرٌ سَهلٌ، خصوصاً في أيامنا هذه حيث تستبدُّ الأنانية والفَردانية، وتتحكم المصالح الشخصية في الناس فقد ذهبت بعيداً في الشَّطَط، لأن الصداقة ليست أمراً عابراً في حياتك، والصديق ليس شخصاً تصحَبه لفترة من الزمن، إنما هو أنت بالضَّبط إلا أنه غيرك بالبدن والشخص، فهو الذي تشكو له ما يعتمل في صدرك، وهو الذي تلجأ إليه في مُلماتك، وهو الذي تعتمد عليه في الكثير من شؤونك، بل هو عَينك، ويَدك، وسَمعك، ولسانك، بل هو قلبك. وكما قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "الأصدِقاءُ نَفسٌ واحِدَةٌ في جُسُومٍ مُتَفَرِّقَةٍ".
ومن هنا فإنَّ اختيار الصَّديق الصَّدوقُ أمر صعب للغاية، ومَن فاز بصديق مؤمنٍ وَفِيٍّ، عالِم ناصِح، يأخذ بيده إلى الخير، ويهديه إلى التي هي أقوم، فقد فاز فوزاً عظيماً. وكان ذلك من دلائل توفيق الله له.
وقد اشتمل القرآن الكريم على الكثير من الآيات الكريمة التي تحدثت عن الصَّداقة، والصَّديق، وتأثيره على صديقه، وضرورة التأنِّي في اختياره، وعلى ذلك مَضَت العشرات من الروايات الشريفة الصادرة عن رسول الله (ص) والأئمة الأطهار (ع)، وتابعهم على ذلك الحُكَماء وعُلماء الأخلاق.
وكُلُّ ما جاء عنهم من وصايا في هذا الشأن اتفق على اختيار الصديق بعد اختبار وابتلاء في مجالات شتى، حتى إذا اطمأنَنت إلى صِدقه وإخلاصه ووفائه، وإيمانه والتزامه الديني والأخلاقي، اتخذته صديقاً، وإلا فرَرتَ منه كما تفرُّ من كل مُخيف، لأن علاقتك به ليست عابرة، وتأثُّرك به ليس قليلاً، ولا يقتصر على الدنيا بل يمتد إلى الآخرة، وهناك إما أن تَحَمد الله على صداقته، أو تَعُضَّ على يديك ندماً وحسرة.
وإذا كان الصديقُ نَفسكَ في جسم آخر، فذا يعني أن تكون مرتاحاً في التعامل معه، وألا تتكلَّف وتتصنَّع له، بل تعامله كما تعامل نفسك، ويكون هو خفيفاً عليك، لا يُكَلِّفك ما لا تقدر عليه، ولا يشُقُّ عليك، ولا يضطرُّك لمداراته ومراضاته عند كل صغيرة وكبيرة، ولا أن تكون قَلِقاً من أي كلمة قد تستفزه، أو موقف قد يُغضبه، أو أن يراك مقصِّراً معه ولو فعلت له كل ما تقدر عليه، ولا يضطرك إلى الاعتذار والتبرير، فمثل هذا الصديق لا يمكن الركون إلى صداقته.
الصَّديق الذي يكَلِّفك ما لا تُطيق، ويشقُّ عليك بطلباته، ويقف لك عند كل تقصير منك أو قصور، وتحتاج أن تنتبه لكل أمر تفعله بين يديه مداراة له، وخوفا على مشاعره، فصداقته عِبءٌ وثِقل. الصداقة الحقيقية مبنية على عدم التكلف، وعلى السهولة واليُسر، وحُسْنِ الظَّنِّ، والإغضاء عن التقصير، والصَّفح، والغُفران، والتجاوز عن الأخطاء العابرة.
التَّكَلُّفَ يستلزم المَشقَّة والتَّعب، والصديق الذي يوقعك فيه ليس أهلا للصداقة، إذ لا فرق بينه وبين أبعد الناس عنك، بل هو شخص سلبي يجلب إليك السلبية والضغوط النفسية، وشخص نكَدي لا يكون منه إلا النَّكَد، الصديق الذي لا يهتم لراحتك، والتخفيف عنك، هو هَمٌّ تصادقه، وليس شخصاً ينشرح صدرك حين تلقاه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:
twitter