
وروِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "شَرُّ النّاسِ مَنْ يَرى أَنَّهُ خَيرُهُمْ".
ويمكنك أن ترى أن منزلك (مادياً) أفضل من منازل كل الناس، وأن ثوبك الذي تلبسه أجمل من أثوابهم، وساعتك التي تلبسها في معصمك أفضل من ساعاتهم، وأشياءك التي تملكها أفضل وأعلى قيمة من أشيائهم. فهذه أشياء يمكن قياسها وفق معايير مناسبة لكل منها، بالجَمال تارة، والقيمة المادية تارة أخرى، وإتقان الصنع ثالثة، وزَخرفتها رابعة، ونُدرتها خامسة، وهكذا.
أما أن ترى أنك خير الناس فهذا وَهمٌ عظيم، وشطط في التفكير، ومجانبة للصواب، وادعاء وحسب، ادعاء لا يمكنك إثباته ولو اجتمع الناس كلهم على القول بأفضليتك، لأن معيار القياس هنا ليس في يديك ولا في أيديهم، إنما هو في يد الله وحده، معيار الخيرية باطني وليس أمراً ظاهراً، والبواطن لا يعلمها إلا الله تعالى، فالناس لا يعرفون عنك إلا ظاهر أمرك، كما لا يعرفون عن سواك إلا ظاهر أمورهم، فرُبَّ شخصٍ يحسبون أنه ليس على شيء فإذا وليُّ لله، وشخصٍ يحسبونه أفضل الناس وهو عدو لله، لقد جاء عن رسول الله (ص) أنه قال: "لا يَزْرَأنَّ أحدُكُم بأحدٍ من خَلقِ اللَّهِ فإنَّهُ لا يَدري أيُّهُم وليُّ اللَّهِ" وجاء عن الإمام الباقر (ع) أنه قال لابنه جعفر(ع): "إِنَّ اَللَّهَ خَبَأَ... أَوْلِيَاءَهُ فِي خَلْقِهِ فَلاَ تُحَقِّرَنَّ أَحَداً فَلَعَلَّهُ ذَلِكَ اَلْوَلِيُّ".
وإذاً: فكما لا يمكنك أن تحتقر أحداً لأنك لا تدري حقيقة أمره فقد يكون ولياً لله، كذلك لا يمكنك أن تَدّعي أنك خير الناس، لأنك لا تعرف حقائق الناس، ولا تعرف من هو خير منك عند الله تعالى.
وقد يُخَيَّل لك أنك بريء من العيوب والنقائص، وأنك متصف بكل الكمالات، ومعظمنا يُخيَّل لنا ذلك، ولكننا لو دققنا في أنفسنا، وحاسبناها بإنصاف، أو وُفِّقْنا بصديق عاقل تَقِيٍ نصوح يكشف لنا عن عيوبنا لوجدنا الكثير، بل لَهَالَنا ما سنجد، ولهذا نهانا الله تعالى عن تزكية أنفسنا، ومدحها والثناء عليها، والتبجُّح بما نحسبه خصالاً رفيعة فيها، فإن نفس هذا العمل مذموم، والاعتداد بالنفس وتوهم كمالها عيب فيها، قال تعالى: "...فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ ﴿النجم/ 32﴾. فالله تعالى هو الأعلم بنا من أنفسنا، وما أكثر ما يغيب عنَّا من سلبياتها ونحن نحسب أننا على خير.
الذي يمنحنا شهادة الخيرية هو الله تعالى
فالذي يمنحنا شهادة الخيرية هو الله تعالى، وليس نحن ولا الناس، فإن كنا نغفل عن سلبياتنا فالناس عنها أغفل، ولهذا أنكر الله على أولئك الذين يمتدحون أنفسهم فقال: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿النساء/ 49﴾.
وهنا أمر مهم يجب أن نلتفت إليه جميعاً وهو: إن اعتقادنا بأننا خير الناس وأفضلهم وأتقاهم وأذكاهم فضلاً عن بطلانه كما تقدم، فإن هذا الاعتقاد يمنعنا من معرفة نقائصنا وعيوبنا، ومع الأيام تزيد ونغفل عن زيادتها، وهكذا دوالَيك حتى تستحوذ النقائص والعيوب علينا.
ولذلك نجد المؤمن الحق هو الذي لا يجتنب الثناء على نفسه والاعتداد بصفاته وحسب، بل يتِّهم نفسَه، ويستَعظم ذنبَه، ويستَقِلُ عمَلَه، وقد كان من أوصاف المتقين التي ذكرها الإمام أمير المؤمنين (ع) فيما يعرف بخطبة المتقين أن قال: "لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية لسيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:
twitter