
وروِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "شَرُّ الْأَشْرارِ مَنْ يَتَبَجَّحُ بِالشَّرِّ".
التَّبَجُّحُ بالشَّرِّ: التباهي والازدِهاءُ والتفاخر به، مع صَلَفٍ وكِبرياءٍ وتَعاظَم.
وهو فعل شديد القُبحِ، ولا يكون إلا من شخص صار الشَّرُّ متأصِّلاً في شخصيته، فيراه سِمَة إيجابية من سماته، ويرى فيه الوسيلة الأنجح لتحقيق مآربه، فيبتهج لذلك، ويشعر باللَّذَّة والسرور، فيفاخر به على الملأ، ويتعاظَم أمامهم أنه قَدِرَ على ما لم يَقدِروا عليه، أو أنه فعل ما فعل ولم يجرؤ أحد على ردعه عنه، أو أنه أفلَتَ من الحساب والعقاب.
وقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "مَنْ أَذْنَبَ ذَنْباً وَهُوَ ضَاحِكٌ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ بَاكٍ" وجاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع) قوله: "إيّاكَ وَالمُجَاهَرَةُ بِالفُجُورِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَشَدِّ المَآتِمِ".
والشَّرُّ يعمُّ كل ما يتأتّى منه الشَّرُّ على الفرد وعلى المجتمع، في دنياه وفي آخرته، سواء كان ذنباً أو مَعصية، أو فِعلاً قبيحاً، أو صِفة رَذيلة، أو ظلماً وعدواناً، أو موقفاً مؤيِّداً للطغيان والجَور، أو كلمة فاحشة، أو سوى ذلك.
إنّ التَّبَجُّحَ بالشَّرِّ وإن كان صغيراً أمام النَّاس فإنه يبدِّلُه شَراً خطيراً وذنباً كبيراً، لما فيه من جُرأة عظيمة عليه، واستهانة بمنكَره وقُبحه، ومساهمة في انتشاره بين الناس، وتعويداً لهم عليه، وحملهم على ارتكابه، وهذا من أهم مصاديق الأمر بالمُنكَر، وصدِّ الناس عن المعروف.
لقد بات التبَجُّح بالشَّرِّ سِمَة من سِمات هذا العصر، فترى الظالم يتبجَّح بظلمه، والجائر يتبجَّح بجَوره، والإرهابي يتبجَّح بإرهابه، والطغاة يتبجَّحون بالقتل والتدمير، وترى الأقلام المأجورة، ووسائل الإعلام المُمَوَّلة منهم تثني عليهم وتمتدحهم وترَوِّج لأفكارهم وسياساتهم، وتدافع عن طُغيانهم، وصار الماكر بتبجح بمَكره، والسَّارق يتبجَّح بسرقته، والمرتكب للمنكرات يتبجَّح بمنكره، بل صارت مجتمعات تتبجَّح بشذوذها عن الفطرة السليمة، وخروجها عن طور الإنسانية القويمة، وتَسُنُّ القوانين التي تحمي الشذوذ، وتُجرِّم من يعارضه، كما تَفرض غرامات على كل من يعارض القتل والتدمير، ويستنكر المجازر البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية الحقة.
ولمّا كان الدين في خدمة الإنسان، وغايتُه إراحته وإسعاده وتجنيبه التعاسة والشقاء، وكان الإنسان مُرَكَّباً من شهوات وأهواء وغرائز جامحة، كان لا بُدَّ لشريعة الدين من ضبط السلوك الفردي وتقييده بما يجعل سلوكه إيجابياً عليه وعلى سواه من أفراد المجتمع، وكان على الشريعة أن تُحَصِّن المجتمع من أي سلوك مُتفلِّت مُنحرف مُؤذي، لذلك حرَّمت إفشاء المعاصي والذنوب، ومنعت من التبجُّح بالشَّرِّ، لأن ذلك يساهم بفعالية في انتشاره وفشُوِّه بين الناس، فأمرت بالتَّسَتُّر عليه وإخفائه فيما لو بَدَرَ من المَرءِ عن عِلم أو عن جهل، عن عَمد أو عن سَهو، كي يبقى مُهاباً من الناس فلا يجترؤون عليه، لأن في الجرأة عليه مردود سلبي يتسبب بدمار المجتمع واضمحلاله. فإذا حصل الشَّرُّ فيجب أن يحاصَرَ في نطاقه الأضيق، من هنا نفهم معنى قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "شَرُّ الْأَشْرارِ مَنْ يَتَبَجَّحُ بِالشَّرِّ" لأن التَّبَجُّحَ به يمثل اعتداءً صارخاً وموصوفاً على المجتمع برمته، إذ يقود إلى تَطَبُّعِ النفوس به، فلا يتردَّدُ أحد بعد ذلك عن اقترافه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الشؤون الدينية والقرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: