
و رُوِيَ عن
الإمام علِيّ (ع) أنه قال: "عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولى يَكُونُ صَبْرُ النُّبَلاءِ".
أكثر الله سبحانه وتعالى ورسوله الأكرم محمد (ص) والأئمة الأطهار (ع) من الوصية بالصبر، ومَدحِه، ومدح الصابرين والثناء عليهم، وذِكْرِ الآثار الإيجابية العظيمة التي تنتج عنه، وأنه فضيلة أخلاقية كُبرى، وأنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وأن لا إيمان لمن لا صبر له، كما لا أثر للجسد من دون رأس، وأن الصبرَ صبران، صبر عَمّا يُحِب المرء، وصبرٌ على ما يكره، والآيات والروايات الشريفة في هذا الصدد كثيرة جداً.
والحياة الإنسانية قائمة على الصبر بكلا نوعيه، فلا شيء يحصل عليه الإنسان من دون صبر، ولا هدف يمكن أن يحققه من دون صبر، وهذا ما لا يحتاج إلى البرهنة عليه فهو معلوم بالتجربة، فالزَّارع يزرع وعليه أن يصبر كي يحصد، والصانع يصنع وعليه أن يصبر حتى يكتمل ما يصنعه، وطالب العِلم عليه أن يصبر على طلب العلم حتى يُحّصِّل رصيداً عِلمياً، والمريض عليه أن يصبر حتى يتفاعل الدواء في بدنه ليتعافى، والمُقاتل يصبر على متاعب القتال كي ينتصر.
ومن يَرم بلوغ المُعالي عليه أن يصبر على متاعب السير إليها، والعابد عليه أن يصبر على العبادة، والوَرِع عليه أن يصبر على اجتناب ما تهُفُّ إليه نفسه الأمارة بالسوء.
وهكذا في كل أمر من أمور الحياة، والحياة زاخرة بالابتلاءات والأزمات والمصاعب والمصائب، بعضها يأتي بعد مقدمات معلومة فيحتاط الشخص ويستعد لها فتكون خفيفة الوطأة عليه، وبعضها الآخر يأتي فجأة فيصدمه، كحدوث زلزال مُدَمِّر، أو سَيلٍ طوفاني جارف، أو حادثٍ، أو موت عزيز، ومِمّا لا شك فيه أن ما يحدث فجأة يصدم الإنسان ويزعزع قلبه، ويجعله أسير الحيرة والضياع، وقد يحمله ذلك على أفعال ومواقف جنونية، وبعض الأشخاص قد تقتلهم الصدمة.
هنا يمتاز الناس عن بعضهم، يمتازون في تعاملهم مع المَوقف الطارئ الصادم، فمنهم من يصبر عليه، ويتعامل معه بحكمة واتزان، ولا يكون منه فعل متوتر، ومنهم من يفشل في التعامل معه فتستبدُّ به الحَيرة والضَّياع، فيجزع ويعُظِّم ما أصابه، فينوء بحمله، ويشعر كأن الجبال قد انْدَكَّت عليه والأرض قد تزلزلت ولم يبقَ له مكان يلجأ إليه، رغم أن المصائب مهما عظمت فإنها تهون مع الأيام، ففقد عزيز أو حبيب راه معظم الناس أنه أعظم المصائب، وبالرغم من ذلك عندما يتلقَّون نبأ موت قريب حبيب، يهول عليهم الأمر ويخرجون عن طورهم، ويكون منهم بكاء وعويل، ويشعرون أن الدنيا كلها قد أظلمت عليهم، لكنهم يعتادون على فقده يوماً بعد يوم حتى إنهم قد ينسوه بعد برهة من الزمن.
لذلك جاء التأكيد على الصبر عند الصَّدمة الأولى لأنه الأهم كي لا يخرج الإنسان عن طَوره، ويكون منه ما لا ينبغي، وما لا يليق بشخصه، وما لا ينسجم مع إيمانه ودينه، ولأن الصبر بعد الصدمة الأولى أمر طبيعي تفرضه طبيعة الإنسان الذي يعتاد على ما أصابه وقد ينساه، والمصائب عادة ما تكون عظيمة في بداياتها، ثم تصغُر مع مرور الأيام، فالصبر الذي يشقُّ على النفس هو الذي يكون عند الصدمة، أما بعدها فلن يكون شاقاً لأنه سيعتاد على ما حدث.
ومما تقدم يتبين أن الصابر الحقيقي هو الذي يصبر أول وقوع المصيبة، إذ يكون صبره نابعاً من يقينه وتسليمه ووعيه للحياة وحوادثها ومفاجآتها، ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولى يَكُونُ صَبْرُ النُّبَلاءِ" والنُّبَلاء هم العُقلاء الأذكياء النُّجَباءُ الحاذقون الواعون العارفون، فهؤلاء يصبرون لقوة في قلوبهم ورجاحة في عقولهم، وفهمهم أن الجزع لا يرُدُّ المصيبة، ولا يخفف منها وطأتها، بل يكون العكس تماماً.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: