
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "غَيرُ مُنْتَفِعٍ بِالْعِظاتِ قَلْبٌ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّهَواتِ".
الموعِظةُ: التذكير المقرون بالرغبة، والرهبة الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، من كلام لَيِّنٍ يوقِظُ العقل، ويُنَبِّه الضمير، ويدعو المرء إلى التفكير بما يسمع ويرى، ويعتبر بما جرى على غيره من الناس، والنُّصح، والإرشاد، والتذكير، والدعوة إلى السيرة الحَسَنَة، وقد تكون الموعظة بالزَّجر، والترهيب المترتب على الاعتبار بمن أخطأ، أو ضَلَّ وانحرف، أو اعتدى وظلم، وما حاقَ به من عقوبات إلهية، وما حَلَّ به من مصائب نتجت عن سوء اختياره وفعله.
ومما لا شكَّ فيه أن للموعظة تأثيراً في القلوب، كتأثير النار في البدن حين تُحرقه، وهي من أهم الأسباب التي توقِظُ العقل، وتُنَبِّه من الغفلة، وتُصلِح الإنسان، وتعيده إلى جادة الصواب، فيتحرَّك للعمل طلباً للنجاة والخلاص من الأمر المَخوف والمَرهوب، ورغبة في نَيل ما يرجوه، وحاجة القلوب إلى الموعِظة، لا تقل عن حاجتها إلى العلم والمَعرِفة، بل لا تقل أهمية عن حاجة البدن إلى الطعام والشراب والدواء، والموعظة هي الطريق إلى العلم والمعرفة والوعي والفَهم والبصيرة، لأن القلب إذا لانَ انفتحت نوافذه على تَلَقّي العلم، والهدى، والرشاد، فيصير قلباً وَضَّاءً تنبعث منه الحكمة، ويصير قابلاً لتلقي الإلهامات الصادقة.
ولا تقتصر الموعظة على الكلام الذي يسمعه والذي يحمل إليه الهدى والرشاد والنُّصح، وكل ما جاء به الأنبياء من عند الله مواعظ وعَظَ الله بها عباده، وما قاله الأولياء والحكماء من كلام بليغ هَدَفَ إلى تنبيه الغافل وإيقاظه، بل تشمَل ما يشاهده المرء، وما يعلمه من تغيُّر الأحوال، والتماس مواقع ومواضع العِبَر من الحوادث والمواقف والتجارب، وما جَرَت به سُنَنُ الله على الماضين من الأفراد والأمم.
وكلما كانت الموعظة بليغة وحَسَنَة كانت أقوى تأثيراً في القلب، وأقوى إثارة للوجدان، ولذلك جاءت الوصية في القرآن الكريم بأن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحَسَنَة، قال تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..."﴿النحل/ 125﴾ .
ولا يختلف معي قارئي الكريم في أننا أحوج ما نكون إلى الموعظة والاتعاظ في زماننا هذا الذي اتسعت فيه سيطرة الشيطان، وعَمَّ فيه الظلم والجَور، واستبدّت به الأنانية المُفرطة، وأعلن الفجور عن نفسه جهاراً نهاراً، وشاع الشذوذ والمُنكَر والفُحشُ، وغلبت فيه الماديات، وطَغَت الشَّهَوات، وقَسَت القلوب، وأفراط الظَّلَمة في القتل والتدمير والمجازر الجَماعيَّة المروعة.
والناس في الاتعاظ صنفان:
صِنف توقِظه الموعظة وتُحييه وتضعه على المسار الصحيح بعد نسيان، أو غفلة، أو انحراف، وتجعل منه إنساناً آخر، بعد أن تثير كوامن الخير في نفسه، وهذا الصنف في الواقع هو العاقل الذي لم يَمُت ضميره، أو بالتعبير القرآني: لا زالت نفسه اللّوّامة حَيَّة مُتوثِّبة.
وصِنف لا تنفعه الموعظة بل لا تنفعه المواعِظ ولو كَثُرَت وتعدَّدت وتتابعت، وهو الذي بلَغَ من الغفلة مداها الأعمق، ومن الجهل حداً لم يتبقَّ فيه عقل يردعه، وفكر ينتفع به، ومن عدم الفَهم حداً بحيث لا يُمَيّز بين الحق والباطل، ولا بين الصَّحِّ والخطأ، أو ذاك الذي أُصيبَ بالغرور، والغرور قاتل، ومانِع من موانع الاتعاظ، أو ذاك الذي ذهب بعيداً في اتباع شهواته والاستسلام لغرائزه، أو ذاك الذي تعلَّق قلبه بالدنيا فمثل هذا لا تنفعه كل المواعظ، ولا ينفعه القرآن ولو قُرِئَ عليه صُبحاً ومساءً، ولا كلام الأنبياء والرُّسُل ولو اجتمعوا كلهم على مخاطبته.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: