
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ لَمْ يُحِطِ النِّعَمَ بِالشُّكْرِ لَها فَقَدْ عَرَضَها لِزَوالِها".
تحمل هذه الجوهرة الكريمة في طياتها رؤية إسلامية عميقة للعلاقة بين النعمة والشكر، وتكشف عن قانون إلهي يحكم استمرار النعم وزوالها، فالنعم تُحفَظُ بالشكر وتُفقَدُ بالجُحود، ومن خلال التزام الإنسان بالشكر قلباً وقولاً وفعلاً، فإنه لا يحفظ نِعَمَه وحسب، بل يرقى بها إلى مستوى العبودية الحقيقية لله، التي هي غاية الوجود الإنساني.
إن إحاطة النِّعَم بالشّكر تعني تحصينها وحمايتها، كالسياج الذي يحيط بالشيء ليحميه، فالشكر هنا ليس كلاماً يقوله الشاكر وحسب، كأن يقول: الحمد لله، أو الشكر لله، بل هو قول، وفعل، وعقيدة، تُحيط بالنعمة وتصونها.
اقرأ أيضاً:
والنِّعَمُ: تشمل كل ما أنعم الله به على الإنسان، من صحة، ومال، وعلم، وأهل، وأمن، وحتى النعم المعنوية كنعمة الإيمان، ونعمة العقل، ونعمة الجاه.
وتعريض النِّعَمِ للزوال: يعني جعلها معرَّضة للاضمحلال والفَناء، لأن ترك الشكر العملي يُفقد النعمة بركتها، أو يُسلبها بالكلية، وفقًا للحكمة الإلهية.
لقد أكَّد
القرآن الكريم في أكثر من موضع العلاقة بين الشكر واستمرار النعم وزيادتها، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴿إبراهيم:7﴾ إنه الوعد الإلهي المتحقق قطعاً بزيادة النعمة مع الشكر، وتحذير من العذاب مع الكفران، وإنها لحقيقة كبرى، تسَكِّن النفوس وتزكيها، إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية، فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة السليمة، والنفس التي تشكر الله على نعمته، تراقبه في التصرف بهذه النعمة، بلا بطر، وبلا استعلاء على الخلق، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والفساد، وهذه وتلك مِمّا يُزَكّي النفس، ويدفعها للعمل الصالح، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها و يبارك فيها، ويرضي الناس عنها وعن صاحبها، فيكونون له عونا، ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان، وإن كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن، أدرك الأسباب أولم يدركها، فهو حق واقع لأنه وعد الله.
ومِمّا لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة الى شكرنا في مقابل نِعَمِه علينا، فإن مردود الشكر عائد إلى الشاكر، قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴿النمل:40﴾ وإذا أمرنا بالشكر فذاك لنستوجب نعمة اخرى وهي واحدة من المبادئ السامية في التربية، والمهم ان نعرف ما هي حقيقة الشكر، لكي يتضح علاقته في زيادة النعمة.
الشكر قارئي الكريم فعل وجودي يملأ كيان العبد الشاكر، ويصبغه بصبغة الامتنان والتقدير للنعمة وللمُنعِم بها، ولذلك يقوم على ثلاثة أركان، كلها مهمة، ولا تغني واحدة منها علن الأخريين.
الأول: الشكر بالقلب: ويتجلَّى باعتراف العبد أن النعمة من الله، هو يُقَدِّرها له، وهو يفيضها عليه، أياً تكن تلك النعمة، وأنَّ نِعَمَه كثيرة لا يمكن حصرها، ويعجز العبد عن شكرها، وأن دوره فيها يقتصر على السّعي إليها وتوفير ما يمكنه من أسبابها، وهذا ما نَبَّه إليه الإمام زين العابدين (ع) في مناجاته إذ قال: "إلـهي أَذْهَلَني عَنْ اِقامَةِ شُكْرِكَ تَتابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَني عَنْ اِحْصاءِ ثَنائِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَني عَنْ ذِكْرِ مَحامِدِكَ تَرادُفُ عَوائِدِكَ، وَأَعْياني عَنْ نَشْرِ عَوارِفِكَ تَوالي أَياديكَ، وَهذا مَقامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النَّعْماءِ وَقابَلَها بِالتَّقْصيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالْاِهْمالِ وَالتَّضْييعِ".
الثاني: أن يعرف المُنعم ( وهو الله) وأن يعرف الغاية من إنعامه عليه، ويعرف كيف يريد له أن يتصرَّف بنِعَمِه، فيستخدمها فيما أباحه له وفيما أمره بالتصرف بها في.
الثالث: أن يشكر نِعَم الله بالقول، ويتجلّى ذلك بدوام ثنائه على الله وحمده وشكره.
ولا جدال في أن الناس لو صرفوا النعم الالهية في هدفها الحقيقي، فسوف يُثبتون عملياً استحقاقهم لها، وتكون سبباً في زيادة نِعَم الله عليهم، والوعد الإلهي بزيادة النعمة على الشاكر لا ينحصر في النعم المادية فقط، بل إن الزيادة في النعم المعنوية أعظم وأهم، فالشكر نفسه نعمة، وتقدير مواهب الله نعمة، والتوجُّه إلى الله تعالى بالثناء عليه نعمة، بل إن الشكر ذاته طريق الى معرفة الله، و لهذا السبب ورد عن علماء العقائد في علم الكلام ان وجوب شكر المنعم طريق الى اثبات وجوب معرفة الله.
بقلم الكاتب والباحث الديني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي