
معادلة لا لبس فيها، تشهد لها التجربة، والتجربة شاهد لا تُردُّ شهادته، المعادلة هذه تُعبِّر عن رؤية عميقة لطبيعة النميمة وآثارها على الفرد والمجتمع، وتُحذِّر من الثقة فيمن ينقل الكلام بين الناس، وتندرج ضمن سياق التحذير من النميمة، التي تُعتبر من الذنوب الكبيرة في الإسلام.
المعنى الظاهري لهذه المعادلة: "مَن نقل إليك كلام الآخرين (سواء كان مدحاً أو ذماً) سينقل كلامك إلى غيرك" .
أما مضمونها فهو أبعد بكثير، إذ يفيد: أن النّمَّام لا يُؤتَمن على الأسرار، لأنه شخصية مزدوجة، فهو ذو وَجهين ولسانين، يُفسِد العلاقات الاجتماعية، وينشر الفرقة بين الناس، ويوقع الخلاف بين المتحابين أو المتعاونين أو المسالمين، فمَن يسهُل عليه نقل كلام الغير إليك، يسهل عليه نقل كلامك إلى غيرك، مما يُفقد الثقة بينكم، ويُهدم الروابط الاجتماعية، ويقطع حبال المودة.
لقد نهى الله تعالى عن النميمة، ونهى عن قبولها من النّمّام، واعتبر النّمّام عُتُلاً مَهيناً، جاء ذلك حين ذكر سبحانه ملامح وصفات، تُشين من يتصف بها، وتحطُّ من قدره في الناس، فلا يوزَن بميزان الإنسان السَّويِّ الذي يطمئن إليه الناس، ويتعاملون معه في ثقة واطمئنان، وأنه لا يتصف بهذه الصفات إنسان له على ميزان الإنسانية وزن، وسواء اجتمعت هذه الصفات كلها في شخص واحد، أو ظهرت عليه أعراض بعضها، فإن أية صفة منها تدعو إلى غيرها، إذ هي جميعها لا تصدر إلا من طبع لئيم، ولا تنضح إلا من نفس خبيثة فاسدة، قال تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ﴿10﴾ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴿11﴾ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴿12﴾ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ ﴿القلم: 13﴾.
فكثير الحلف: كذوب، منافق، يداري كذبه ونفاقه بهذا الستار الأسود، من كثرة الأَيْمان الكاذبة الفاجرة، ولهذا فإنه مَهين حقير دنيء، لأنه لا يحترم نفسه، ولا يرتفع بها عن أن يبيعها بهذا الثمن البخس، بل يعرضها في سوق النفاق والكذب، سلعة رخيصة.
والهَمّاز المَشّاء بالنَّميم: هو وجه قبيح من وجوه أهل الكذب والنفاق، حيث يهمز الناس أي يعيبهم، وينالهم بالسوء، في غَيبتهم، فهو جبان، مَهين، لا يجرؤ على أن يلقى الناس مواجهة، وهو إذ يرمي الناس بالمساءات من وراء ظهورهم، يمشي كذلك بينهم بالنميمة، فينقل إليهم ما بوقع العداوة والبغضاء بينهم، سواء أ كان ما ينقله حقا أو باطلاً.
والمَنّاع للخير: شخصٌ مَهين ذليل، ممسك بما في يده، ضنين به، لأنه يرى أنه فى وجه الهلاك والضياع، إن هو لم يُحصِّن نفسه بالمال، وهذا شأن النفوس الضعيفة المَهينة.
والمُعتَدي الأثيم، هو هذا الكذوب، المنافق، الهَمّاز، المَشّاء بالنَّميم، الضَّنين بالخير، لأنه في كل هذه الصفات يعتدي على الناس بالكذب عليهم، ونهش أعراضهم من وراء ظهورهم، والسَّعي بالنَّميمة بينهم، وبالضَّنِّ بما لهم من حق فيما بين يديه من خير.
والعُتُلّ: هو الجافي، الغليظ الطبع، الذي ينهش في أعراض الناس، ويقطع أواصر الأخوة بينهم، دون أن تتأثر لذلك مشاعره، أو تألم لذلك نفسه، شأنه في هذا شأن الحيوان المفترس.
وكشف رسول الله (ص) عن أنه: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ"، والقَتَّاتُ هو النَّمّام، وكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) عن الآثار الخطيرة للنَّميمة فقال: "إيّاكَ والنَّميمَةَ، فإنّها تَزرَعُ الضَّغينَةَ وتُبَعِّدُ عنِ اللَّهِ والنّاسِ" وقال: "مَن سَعى بالنَّميمَةِ حارَبَهُ القَريبُ ومَقَتَهُ البَعيدُ" وكشف عن أن السّاعي بالنميمة كذاب وظالم ولو تشبَّه بالصالحين، فقال: "السّاعي كاذِبٌ لِمَن سَعى إلَيهِ، ظالِمٌ لِمَن سَعى علَيهِ"
نستنتج مما سبق:
أولاً: ضرورة اجتناب النميمة، وعدم الاستماع إلى النَّمام ولو كان ينقل إلينا ما يدغدغ مشاعرنا، وأن ننصحه بالكف عن هذه العادة القبيحة، ونفعل معه كما فعل الإمام أمير المؤمنين (ع) مع رجل رفع إليه كتاباً فيه سِعاية (نميمة) فقال له: "يا هَذا، إِنْ كُنتَ صادِقاً مَقَتناكَ، وإنْ كُنتَ كاذِباً عاقَبناكَ".
ثانياً: أن نتثبَّت مما ينقله النَّمّام إلينا، تطبيقًا لقول الله تعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وعدم تصديق الأخبار دون تحقيق .
ثالثاً: أن نحفظ ألسنتنا من كل كلام قبيح، أو غير مفيد، أو يمكن أن يؤدي إلى إيقاع الفرقة بين الناس، فإنَّ: "بَلاء الإِنسانِ مِنَ اللّسانِ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي