
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ يَكُنِ اللّهُ خَصْمَهُ يُدْحِضْ حُجَّتَهُ وَيَكُنْ لَهُ حَرْباً".
معادلة لا يجوز أن تغيب عن بالنا بأي حال من الأحوال، لعظمة تداعياتها علينا في الحياة وبعد الممات، إنها تربط بين مخاصمة العبد لربه، وبين دحض الله لحجته وحربه له، ومن يدحض الله حجته ويحاربه يكن من الخاسرين في دنياه والأشقياء في آخرته.
والسؤال المطروح: هل يخاصِمُ الإنسانُ اللهَ؟
يتطلَّب الجواب على هذا السؤال معرفة معنى المخاصمة أولاً، ومظاهر المخاصمة مع الله تعالى ثانياً.
المخاصمة: المنازعة الشديدة، وأصلها: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر، أي جانبه، كأن يتنازع اثنان ثوباً، هذا يجذبه إليه، وذاك يجذبه إليه، وكل منهما يحتج على الطرف الآخر أنه له.
وقد وصف الله الإنسان بأنه خصيم مبين، أي أنه شديد الشكيمة، كثير المخاصمة والمنازعة مع الله تعالى، قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴿يس: 77﴾. فهذا الإنسان الذي أصله نطفة مَذِرةٌ، تراه شديد المخاصمة لله تعالى، يجادله، ويطلب منه البرهان والدليل على ما يدعوه الله إليه، أو يقرِّره.
وما أعجب هذا الإنسان، كيف يجادل في ذلك وهو يرى عظمة القدرة في خلقه الذي يكشف عن عظمة الخالق الذي خلقه؟ و كيف يجادل في البعث و هو يرى عظمة البَدء التي تطل على إمكانية الإعادة؟ وكيف يُجيز لنفسه أن ينهض لمحاربة الدعوة الإلهية، وينسى ماضيه حين كان نطفة وماء مَهيناً؟!
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿غافر: 56﴾. فالمجادلة تعني العِناد في الكلام وإطالته بكلام غير منطقي وغير عقلاني، ومن غير حُجَّة دامغة، وبرهان ساطع مبين، والذي يدعو الإنسان إلى ذلك الغُرور الذي يزيِّنه الشيطان له، وأنه على الحق، وأن الغلَبة آخر الأمر له، فهذا الكِبر والغرور الذي يملأ صدره ما هو إلا باطل لا قيمة له، ولا برهان يشهد له.
إن الإنسان المغرور المتكبر، المجادل المخاصم، ينسى أنه كائن ضعيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضَراً، ولا يدفع عنها مرضاً ولا موتاً، وينسى أن قوته التي يعتزُّ بها، فتدعوه إلى الغرور والاستكبار ليست من ذاته إنما هي من الله تعالى، فتراه يقطع اتصاله بالله ويعتَدُّ بنفسه، وقوته، وذكائه، ويتعالى حتى على الله الذي خلقه من ماء مهين، فيخاصمه، ويحتجُّ عليه.
وتتجلَّى الخصومة مع الله بوقوف الإنسان موقف العداء لله تعالى، ومساواة نفسه بالله، ومعارضته لشريعته تعالى، أو أن يجادل بالباطل ليردَّ به الحق، أو أن يناصر الظلم والطغيان الذي نهى الله عنهما، على حساب العدل والإيمان.
ومن مظاهر المخاصمة مع الله تعالى: رفض شريعته، أو تحريف أحكامها، أو التحايل عليها، أو الإيمان ببعضها والكفر ببعضها الآخر، ومن مظاهرها أيضاً: تكذيب أنبياء الله ورُسُلِه، وتكذيب أوليائه المعصومين، (ع) ومبارزتهم بالمحاربة.
إن الذي يخاصم الله يُبطل الله حجته، ويزيلها، ويجعله عاجزاً عن الدفاع عن موقفه، فلا تقوم له قائمة أمام الحق الذي يؤيده الله ويؤيده، قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴿الأنبياء: 18﴾.
ولا يقتصر الأمر على دحض حجة من يخاصم الله وأولياءه، بل يكن الله له حَرباً، أي أنه يدخل في مواجهة مباشرة مع الله القوي القادر، والمُعِزِّ والمُذِلّ، وهذ أمر لا طاقة لبشر به، لأن الله تعالى هو القاهر فوق عباده، وإذا أعلن الحرب على عبدٍ فإن مصيره الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة، والعاقل هو الذي يَحرص كلّ الحرص على أن يكون في صفّ الله لا خصمه، وفي طاعته لا معصيته، وفي ولايته لا في حربه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي