وتعتبر مكتبة "الغازي خسرو بيك" في سراييفو أعرق مكتبات البوسنة والهرسك وذاكرة البلقان، وبها أقدم مخطوطات في العالم، وتحظى بمكانة وأهمية كبيرة بصفتها المكتبة الأم في البوسنة، وتحتوي على 20 مخطوطة من ترجمات القرآن الکریم، بعضها باللغة التركية العثمانية، والفارسية، وبعضها باللغة البوسنية.
وقد أسس هذه المكتبة الغازي خسرو بيك سنة 944هـ / 1537م، كما يظهر من الكتابة المنـحوتة على مدخلها، والوقفيـّة المحفوظة ضمن مخطوطاتها، وكانت في بداية الأمر ملحقة بمدرسة الغازي ووقفاً على طلاّبها حسب ما يوحي به قوله في وقفيّة المدرسة "وما يفضل من خرج البناء تبتاع به الكتب المعتبرة، وتستعمل في المدرسة المذكورة ليستفيد منها من يطالعها من المستفيدين، ويستنسخها من يستنسخها من المحصّلين.
وتعدّ مكتبة غازي خسرو بيك في العاصمة البوسنية سراييفو، وبداخلها مخطوطات فريدة من نوعها، بمثابة "الذاكرة" لمنطقة البلقان، ولا تزال في الخدمة منذ مئات السنين. وتحوي المكتبة آلاف المخطوطات العربية والتركيّة والفارسيّة التي جلبت إليها بطرق مشروعة خلافًا لما هو عليه الحال في مكتبات ومتاحف أوروبا الغربيّة أو نسخت بأيدي أبناء البوسنة الذين شغفوا بالكتب، وبذلوا وسعهم في نسخها، والاعتناء بها. لذا فالمكتبة تعتبر هي ذاكرة البوسنة والهرسك، وقد حافظت على ثقافة وذاكرة البوسنة ولا تزال تحافظ عليهما.
إقرأ أيضاً:
وتمثل مكتبة "الغازي خسرو بيك" ذاكرة الشعب البوسني لكونها تضم خلاصة إنجازاته الثقافية والحضارية متمثلة في كم هائل من المخطوطات القيمة يصل إلى 10 آلاف مخطوطة بلغات عديدة، يعود تاريخ بعضها إلى ألف عام، وهي بذلك تأتي في مصاف كبريات المكتبات التراثية في أوروبا.
وخلال العهد العثماني كان يوجد في البوسنة والهرسك أكثر من مئة مدرسة دينية، كل واحدة منها كانت تحتوي مكتبة خاصة، وعقب زوال نظام الأوقاف من البوسنة والهرسك، تم نقل المخطوطات التي كانت توجد في مكاتب التكايا والمدارس والمستشفيات، إلى سراييفو.
كما تضم مكتبة "غازي خسرو بيك" نوعين من المخطوطات: الأول خطّه علماء بوسنيون نهلوا من العلم الشرعي في مدارس بغداد والقاهرة، والثاني عبارة عن مخطوطات إسلامية قديمة استجلبت من مكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق والقاهرة وبغداد وإسطنبول على يد العلماء والحجاج والتجار وطلاب العلم.
وقد تعرّضت المكتبة ومخزونها النفيس إلى محن شتى من الدمار والفيضانات والحرائق وغيرها، شأنها في ذلك شأن سائر المنشآت الإسلامية في البوسنة، ومن أشد ما لحق بها عمليّة السلب والتدمير التي وقعت أثناء عدوان أوغين سافويسكي النمساوي على سراييفو سنة 1109هـ / 1697م، التي نتج عنها فقدان عدد كبير من نفائس مخطوطاتها بما في ذلك مخطوطات أوقفها الغازي خسرو بيك نفسه رحمه الله. وفي عام 1995م تعرض "معهد الشرقيات" في البوسنة إلى حريق أتى على أكثر من خمسة آلاف مؤلف مكتوب بخط اليد.
وبلغ عموم ما أودع خزائن المكتبة خمسين ألف وحدةٍ من المجلّدات والمؤلّفات والمجلاّت والوثائق التركيّة باللغات الشرقيّة والغربية، منها سبع آلافٍ وخمسمئة مجموعةٍ، وخمسة عشر ألف كتابٍ ورسالة في العلوم الإسلاميّة واللغات الشرقيّة والأداب، إلى جانب مثل هذا العدد باللغات السلافيّة والأوروبيّة، ونحوأربعة آلاف وثيقةٍ تاريخيّة تتعلّق بتاريخ البوسنة والهرسك، وألفًا وأربعمئة وثيقة حول أوقاف البوسنة، وستًا وثمانين سجلًا للمحاكم الشرعيّة البوسنويّة، وكتب ووثائق أخرى بالغة الأهمّيّة.
كما أنها تحتوي على 15 ألف رسالة في العلوم الإسلامية وعلم اللغات الشرقية والأدب الكلاسيكي إضافة إلى مدونة باللغات الأوروبية ويقدر عددها بـ15 ألف كتاب. ومجموعة ضخمة من الوثائق تصل إلى 4000 وثيقة تتعلق بسجلات المحكمة الشرعية في سراييفو، والمجموعة التاريخية للمؤلف أنور قاضيتش البالغ عددها 28 مجلدا، وتاريخ البوسنة في 4 مجلدات، إضافة إلى الصحف والمجلات الصادرة في تلك الفترة الزمنية.
وأقدم ما في مكتبة الغازي خسروبيك من المخطوطات نسخة من كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، نسخت عام 525 هـ /1131م، أي بعد وفاة المؤلّف رحمه الله بعشرين سنة فقط، وهو أقدم كتاب مستنسخ في العالم. يليه كتاب فردوس الأخبار في مأثور الخطاب للديلمي الهمذاني (ت 509هـ /1116م)، وهو منسوخ عام 546هـ / 1151م بيد عبد السلام بن محمد الخوارزمي بهمذان. ثمّ الجزء الثالث من كتاب الكشف والبيان في تفسير القرآن لأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري ( ت 427 هـ / 1036 م )، ويرجع تاريخ هذه النسخة إلى عام 571هـ/1176م وهو بخط بركات بن عيسى بن أبي يعلى.
توجد بالمكتبة أيضًا مؤلفات تعود للقرون الـ12 والـ13 والـ14 الهجري، والمؤلفات التي كتبت بخط اليد في البوسنة تدل على الدور الفعال لهذه البلاد في الحضارة الإسلامية. وتتنوع مضامين المخطوطات الموجودة في المكتبة، فبالإضافة إلى العلوم الإسلامية هناك مخطوطات في الطب والصيدلة والطب البيطري والرياضيات وعلم الفلك والفلسفة والمنطق والتاريخ واللغة والأدب.
خزينة لمؤلفات أشهر علماء البوسنة
وإلى جانب أمّهات الكتب التي ألّفـها علمـاء الإسلام على مرّ العصور ـ وكان حظ مكتبة الغازي خسروبيك منها وافرًا ـ نجد في خزائن تلك المكتبة ما لا نجده في سواها من مؤلّفات علماء البوسنة الذين كان لهم أثر قلّ من اطلّع عليه في إثراء حركة التأليف والنسخ في الولايات العثمانيّة، وبرز منهم علماء أعلام لا يقلّون شأنًا عن أقرانهم من العلماء العاملين في ديار الإسلام الأخرى.
وبالجملة فإن مكتبة الغازي خسروبيك كانت ولا تزال ذات دورٍ رئيسٍ في خدمة تراث الأمّة وحفظه، ولها مع سائر مكتبات البوسنة دور كبيرٌ في حفظ مخطوطاتٍ نفيسة، وأصول قيّمة للكتب الإسلاميّة وغيرها.