ایکنا

IQNA

"ألفريد هوبير" ورحلة مستشرق ألماني من الشك الأكاديمي إلى يقين القرآن

18:25 - September 07, 2025
رمز الخبر: 3501544
إکنا: منذ القرن السادس عشر، ظلّ النص القرآني حاضراً بقوة في المشهد الفكري الألماني، وشغل على مدى قرون اهتمام الباحثين والمستشرقين الذين انكبّوا على دراسة اللغة العربية وفك شفرات كتابها المقدس.

منذ القرن السادس عشر، ظلّ النصّ القرآني حاضراً بقوة في المشهد الفكري الألماني، وشغل على مدى قرون اهتمام الباحثين والمستشرقين الذين انكبّوا على دراسة اللغة العربية وفك شفرات كتابها المقدس. لكن هذه الرحلة الطويلة لم تكن دائماً محايدةً؛ فبداية من القرن السابع عشر، غلبت على الترجمات القرآنية رؤى متأثرة بالانحيازات الدينية والسياسية، وقليل منها فقط تعامل مع النص بروح علمية بحتة.
 
وشهدت المكتبة الألمانية ترجمات اتسمت بالسطحية والبعد عن الروح القرآنية، مثل ترجمة دافيد فريدريش ميجرلين (1772)، وأخرى غلبت عليها الصنعة الأدبية كما في أعمال لودفيغ أولمان وفريدريش روكرت. ثم جاءت أعمال أكثر منهجية مثل ترجمة ماكس هينينغ (1901) ورودي باريت (1966) التي أثارت نقاشات واسعة حول موقفها من الإسلام. لكن العمل الأكثر تأثيرا في الدراسات الأكاديمية الغربية ظل على مدى عقود كتاب "تاريخ القرآن" للمستشرق تيودور نولدكه، الذي أصبح حجر الزاوية في البحث الغربي.

في المقابل، شهدت العقود الأخيرة ظهور محاولات أكثر موضوعية، بل إن بعض المترجمين، بعد رحلة فكرية وروحية طويلة مع النص القرآني، اعتنقوا الإسلام، فانعكس ذلك على أعمالهم بروح مختلفة تجمع بين الدقة اللغوية والتجربة الوجدانية العميقة، ومن أبرز هؤلاء زيغريد هونكه وآنا ماري شيمل.
 
ترجمة معاني القرآن للغة الألمانية
 
في هذا السياق المتشعب، جاءت قصة الدكتور ألفريد هوبير، المستعرب الألماني الذي خاض تجربة شخصية وفكرية فريدة، انتقل فيها من فضاء البحث الأكاديمي البارد إلى فضاء الإيمان والاقتراب الوجداني من القرآن. قصة هوبير ليست مجرد سيرة عالم، بل هي رحلة إنسان بحث عن الحقيقة بين الأديان والقارات، ليجدها في نهاية المطاف في لغة الضاد ونصها المعجز.
 
شاب قلق يبحث عن الإله

ولد ألفريد هوبير في فيينا بالنمسا، ونشأ في بيئة مسيحية كاثوليكية متدينة، حتى إن والديه كانا يعدّانه ليسير في سلك الرهبنة ويصبح قسيساً. لكن الشاب القلق لم يكن يؤمن بالمسلمات، وكان دائم البحث عن حقيقة الأشياء. أثارت انتباهه منذ مقتبل عمره مسألة الإيمان واختلاف الأديان والصراع المحتدم بينها، وكان يردد دائما تساؤله الوجودي: "إذا كان الجميع يعبدون الله، فلماذا إذن كل هذا الاختلاف؟". من هنا، بدأت رحلته الطويلة للبحث عن الله.
 
ويقول هوبير مسترجعا تلك الأيام: "كنت دائماً أتساءل عن الحياة والآخرة وما بعد الموت. دفعني هذا الفضول إلى البحث والسفر إلى بلاد كثيرة بحثاً عن المعرفة والحقيقة الإنسانية. ومن خلال القراءة، أحببت الشرق الأوسط، جذبتني الصحراء، وشدّني منظر الجمال فيها، وتمنيت يوماً أن أزور المنطقة العربية وأعيش فيها".
 
ترجمة معاني القرآن للغة الألمانية
 
ابتداء من سن الثامنة عشرة، انطلق هوبير في رحلاته. بعد تخرجه في الجامعة، كانت وجهته الأولى روما، عاصمة المسيحية في العالم. يقول: "لأني كنت شديد التدين، ذهبت إلى الفاتيكان. وعندما رأيت التماثيل الضخمة، هالني منظرها وأصابتني نظرات التماثيل والبابوات بالرعب. قلت في نفسي: ليس هؤلاء من يعبرون عن الله في الأرض، وليسوا رجال قداسة كما تصورهم الأقانيم".
 
بعد إيطاليا، قادته رحلته إلى اليونان ثم تركيا، وهناك كانت أولى ملامساته الحقيقية مع الإسلام. "وجدت روحاً إنسانيةً، ووجوهاً مبتسمةً، وضيافةً جيدةً. هنا قابلت الإسلام الحقيقي كما قرأت عنه. ثم ذهبت إلى قونية، حيث قبر جلال الدين الرومي، وهناك وجدت الروحانيات والسكينة".
 
 ولادة جديدة

في أوائل السبعينيات، واصل هوبير رحلاته إلى الشرق. زار سوريا والأردن، ومنها وصل إلى القدس. ورغم تأثره بالأماكن المقدسة في كنيسة القيامة، فإنه لم يسترح لجو الكهنوت الذي شعر به. يصف تجربته قائلاً: "يوم الأحد، وجدت ما لا يقل عن 12 قداساً مختلفاً. لم أسترح لجو البابوات حيث يأمرك القسيس بنبرة قاسية أن تقبّل الصليب ثم يأمرك بالتبرع. عند قبر المسيح، التصرفات نفسها غير المريحة. رأيت كما لو كانت العبادات كلها تجارة وأمورا دنيوية لا أكثر".
 
دفعه شغفه بقراءة النصوص الدينية في لغاتها الأصلية إلى دراسة العبرية واليونانية واللاتينية والسنسكريتية. قادته هذه الرحلة إلى الهند، حيث انغمس في الديانة البوذية ودخل دير "الأشرم" في مدينة ريشي كش المقدسة. هناك، عاش تجربة كادت أن تودي بحياته، لكنها كانت ولادة جديدة.
 
يروي هوبير: "من طقوسهم أن تذهب إلى النهر لتغتسل كما كان يفعل بوذا. نزلت نهر الغانج المقدس، وأخذني التيار بقوته وكدت أن أغرق. وبالفعل غرقت، ورأيت نفسي تقريباً في عالم آخر. استولت علي حالة من الصفاء والهدوء الشديد وأنا بين الموت والحياة، ولم أفق إلا وأنا عار تماما، حيث جردني التيار من كل ملابسي. كانت هذه بالنسبة لي ولادة جديدة".
 
لكن نقطة التحول الحاسمة جاءت في تاج محل، "لا أدري ماذا حدث لي؛ شعرت بالهدوء والجمال، شعرت بأنني في الجنة. هنا بدأت نفسي تطمئن إلى الإسلام، وتيقنت أنه لا الكاثوليكية ولا الهندوسية هي الديانة التي تختارها نفسي. بدأت أركن إلى أن الإسلام هو الدين الذي اختارته روحي".
 
مواجهة الموروثات

عندما سئل هوبير عن صورته الذهنية عن الإسلام قبل اعتناقه، يعترف بصراحة بأنه لم يبدأ رحلته بروح محايدة تماما. يقول: "أكذب إن قلت لك إنني كنت أتمتع بروح محايدة. كنت أنتمي إلى خلفية أوروبية كاثوليكية، محملة بالصور النمطية عن الإسلام. في البداية، أردت أن أقرأ القرآن لأثبت لنفسي أنه نص صعب ومملوء بالتناقضات كما صوره المستشرقون من قبلي. لكنني فوجئت بأنني أجد فيه اتساقا عجيبا، ووحدة داخلية، وقوة بلاغية لا مثيل لها. تلك اللحظة كانت بداية تحطيم الصور النمطية التي حملتها معي".
 
ويضيف أن الإنسان في الغرب غالباً ما يولد ولديه بعض الكراهية للإسلام، وهو ما تعززه وسائل الإعلام التي تقرن الإسلام بالإرهاب، والدعاية الصهيونية التي شوهت المفاهيم السليمة عن الدين، "لن يفلت من هذا الشرك سوى من حاول أن يفكر بشكل مستقل".
 
سرد الإعلام الغربي

عند الحديث عن القضية الفلسطينية، يرى هوبير أن الإعلام الغربي يمارس قلبا بشعا للحقيقة. يقول "إن الغالبية العظمى من الشعوب الغربية مستسلمة لهذا الإعلام الكاذب، لا يعرفون أن هناك شعباً اسمه الشعب الفلسطيني كان يعيش على أرضه، وتم قتله وطرده والاستيلاء على وطنه. وإذا ما دافع الفلسطينيون عن أنفسهم اتهموا بالإرهاب، وقيل إن إسرائيل تدافع عن نفسها. أصبح الضحية إرهابياً، والقاتل المعتدي هو الذي يدافع عن نفسه".
 
أما الحل من وجهة نظره فيكمن في "حضور العرب"، "فبغير حضور العرب الفاعل جغرافيا على أرضهم، وتاريخياً من خلال استغلالهم لعناصر القوة لديهم، لن يكون هناك حل. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: أين العرب مما يحدث في غزة؟ أين دورهم؟ أين البلدان العربية الكبرى؟". ويشير إلى أن الحكومات الغربية قد تعرف الحقيقة، لكنها تعجز عن الجهر بها بسبب سيطرة اللوبيات الإمبريالية على السياسة والإعلام.
 
رحلة مع القرآن وترجمة معانيه

بعد دراسته للعربية، وجد هوبير في القرآن نصاً مختلفاً جذرياً عن الترجمات التي قرأها. وهو يصر على أنه "لا يوجد ما يطلق عليه ترجمة للقرآن الكريم"، فاللغة العربية لغة مقدسة، والقرآن نص إلهي لا يقرأ إلا من خلالها، "إنما كل ما يكتب هو فقط عن معاني القرآن".
 
يقول: "لما قرأت القرآن الكريم أول مرة، أحببته، لأني كنت أحب الشعر وأكتبه، ووجدته لغة جمالية بالدرجة الأولى". هذه العلاقة العميقة بالنص قادته في النهاية، بعد أن أصبح مدرساً في جامعة الأزهر، إلى تكليفه من قبل وزارة الأوقاف المصرية بترجمة معاني القرآن، وهو المشروع الذي استغرق منه 13 عاماً.
 
إعلان الإسلام ولحظة التحول

وأعلن هوبير إسلامه أول مرة في إسطنبول عام 1980، في لحظة يصفها بالفارقة؛ "كنت أناقش أحد الأصدقاء، وبعد أن انتهينا فوجئت به يقول لي: ألفريد، أنت مسلم، كل كلامك يؤكد إسلامك. بعد هذه الجملة، زالت دهشتي، وسكت. فقال لي: هيا بنا إلى المسجد. وبالفعل، قرأت الشهادتين".
 
ثم أعلن إسلامه مرة ثانية في الجامع الأزهر عام 1981، وسط فرحة المصلين، عندما جاء إلى مصر لتدريس اللغة الألمانية. كان رد الفعل على إسلامه متبايناً، لكن الموقف الأكثر تشدداً جاء من والدته الكاثوليكية المتشددة. يقول: "غضبت مني، وقلت لها: لك دينك ولي دين، وإن اعتناقي للإسلام هو نتاج مسيرة طويلة من البحث عن الحقيقة".
 
في تقييمه للاستشراق الألماني، يرى هوبير أن أي ترجمة للقرآن، إن لم تأت من عقل مسلم مؤمن، فلن تكون منضبطة مهما بلغت درجة حيادها العلمي. ويعتبر أن أفضل من ترجم معاني القرآن إلى الألمانية هو الشاعر فريدريش روكرت الذي يعتقد أنه "كان من داخله مسلما حقيقيا".
 
عندما يطلب منه أن يختصر رحلته الطويلة قبل الإسلام وبعده، يجيب من دون تردد في جملة واحدة تلخص كل شيء: "أستطيع أن أوجز هذه الرحلة الطويلة في جملة واحدة: أنني انتقلت من الظلمات إلى النور".
 
المصدر: الجزيرة نت 
captcha