
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أَخَّرَ الْفُرْصَةَ عَنْ وَقْتِها فَلْيَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ فَوْتِها".
إن قلنا إن الحياة مليئة بالفرص، فقولنا صحيح مئة بالمئة، الحياة كما الليل والنهار، يذهب أحدهما ليعقبه الآخر، وكلاهما يتواردان على أهل الأرض كافة، من يكن في ليل فالنهار قادم إليه لا محالة، ومن يكن في نهار فالليل قادم إليه لا محالة، وفي كليهما فرص لنا، لنا جميعاً الكبير والصغير، القادر والعاجز، الذكي والأحمق، الغني والفقير، المؤمن والكافر، جميعنا تأتينا فرص منتظرة وغير منتظرة، إنها كما وصفها الإمام أمير المؤمنين (ع) كالسحاب يمر فوق البلاد والعباد، والغيم الذي يهطل بالماء من غير تمييز بين جبل أو وادٍ، وبين سَهل أو هضبة.
الفرق بيننا يكمن في أن مِنَّا من يقتنص تلك الفرص يمسك بها في وقتها، وبين من يغفل عنها، أو يؤخر الإستفادة منها عن الوقت الملائم، فتمضي بعيداً، تمضي إلى شخص آخر يترصَّدها، وهذا واحد من أهم أسباب النجاح والفشل في الحياة، فمن أهمِّ ما يُمَيِّز الناجحين اقتناصهم الفرص ومسارعتهم إلى اقتناصها، ومن أهم ما يميِّز الفاشلين غفلتهم عن الفرص وما ابتلوا به من تسويف وتردد ومماطلة، إما بسبب الجهل بقيمتها وأهميتها، أو بسبب الخوف من الفشل.
الفرص قارئي الكريم هي تلك اللحظات أو الظروف أو الإمكانيات التي تتيح لنا تحقيق هدف معين، أو إنجاز أمر ما، أو الانتفاع من عرض ما، سواء على الصعيد العلمي، كفرصة الإفادة من أستاذ ماهر، أو عالم متخصِّص، أو باحث متمكن، أو منحة دراسية، أو دورات تدريبية، أو المشاركة في مجالس وندوات علمية، أو على الصعيد المهني، حيث قد تُعرَض على الشخص فرص عمل، أو وظيفة، أو مشاركة غني مقتدر، أو العمل مع شخص ذكي طموح وَفِيّ، أو على الصعيد الشخصي، كالتعلم من الآخرين والإفادة من تجاربهم، وأخذ العبرة منهم، أو التوفيق لصحبة الصالحين والاستفادة منهم في تهذيب النفس، وتنمية فضائلها، أو على الصعيد الاجتماعي، كالتواصل مع الأقرباء، وصلة الأرحام، أو بناء علاقات اجتماعية جديدة، أو على الصعيد الإيماني الروحي، كالمشاركة في المواسم العبادية، وإقامة الشعائر الدينية، والاستفادة القصوى من الزخم الروحي حين يشعر المرء بإقبال قلبه على العبادة والتذاذ نفسه بها، ونحو ذلك.
وإن هذه الفرص التي سبقت الإشارة إليها وسواها قد تكون واضحة وجَلِيَّة، أو خَفيِّة تحتاج إلى ملاحظة دقيقة وذكاء في التقاطها، وفي اعتقادي لا يلتقطها إلا شخص بعيد الهِمَّة، متوثِّب دائماً، لا يرضى بأن تتساوى أيامه، ولا يستسلم للظروف التي يمر بها، ولا يغفل عن الواقع وما يجري فيه من تحولات.
إن انتهاز الفرص باب واسع للنجاح في مختلف الصعد، والمرء الذي يملك الجرأة والإقدام، ولا يخاف من المغامرة المحسوبة لا شك أبداً في أنه قادر على تغيير واقعه نحو الأفضل، ونجاحه في تحقيق أهدافه، فالنجاح لا ينتظر أحداً، المبادرة والجرأة، والثقة بالنفس، واستغلال الفرص، والتعلم من تجارب الآخرين، والتغلُّب على الخوف والتردد، وتهيئة ما يمكن من أسباب، والتوكل على الله تعالى هو الذي يصنع النجاح.
والمرء الذي ينتهز الفرص ولا ينتظر كما ينتظر غيره أن تتبدل أحواله من تلقائها ومن دون أن يبذل الجهد المطلوب، ينعكس ذلك على ثقته في نفسه، وتنمية تفكيره، وتعزيز قدراته، وزيادة إيمانه بها، بل يزيد ذلك من منسوب إيمانه بالله تعالى الذي وفَّقه لذلك.
وإن من أهم أسباب الفشل في الحياة كما أسلفنا: تضييع الفرص، سواء بالغفلة عنها، أو عدم معرفة أهميتها وقيمتها، أو بالمماطلة فيها، أو الخوف من الفشل، أو نقص الثقة بالنفس، أو التردد وعدم القدرة على اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة، أو الكسل والمماطلة والتأجيل، وهذا بالضبط ما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ أَخَّرَ الْفُرْصَةَ عَنْ وَقْتِها فَلْيَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ فَوْتِها".
إن انتهاز الفرص هو فن من فنون الحياة يتطلب وعياً وجرأة وبصيرة، فقد لا تتكرر الفرصة، وإذا لم تُغتَنَم في حينها فاتت وماتت ولم يبقَ للشخص إلا الحسرة، وكل إنسان يملك القدرة على تحويل الفرص إلى إنجازات إذا ما أحسن التعامل معها، لذلك، فإن بناء عقلية المبادرة والاستعداد الدائم يمكن أن يصنع الفارق في حياة الفرد والجماعة ويقودهما نحو النجاح الحقيقي.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي