"بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ مشهد الشباب الذين اصطفوا إلى جانب الامام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء، يُمثّل إحدى أرقى صور الكمال البشري؛ إذ كيف يمكن لفتيانٍ لمّا يبلغوا العقد الثالث من أعمارهم أن يختاروا الموت بإرادتهم، لا لهدف دنيوي ولا لمطمع ذاتي، بل لأجل كلمة الله أن تعلو، ولأجل بقاء دين محمد (صلى الله عليه وآله)؟
في هذا السياق، لم يكن الموت عندهم نهاية، بل بوابة العبور إلى الخلود، وكانوا يرونه بعين الحب، كما قال الإمام الحسين(عليه السلام): "صبرًا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة…"(بحار الأنوار، ج45، ص87).
كانت تضحية هؤلاء الشباب تعني شيئًا أعمق من مجرد شجاعة؛ كانت تعني أن العقيدة أقوى من الغريزة، وأن الوعي أقوى من الفتنة، وأن المحبة لله ولرسوله وآله تطغى على حب الحياة.
قبسات من سِيَر الشباب الشهداء
1. القاسم بن الحسن عليهما السلام: النضج المبكر واليقين الثابت
كان القاسم غلامًا لم يبلغ الحُلم على رواية، لكنه تجسَّد في يوم عاشوراء كرجلٍ من رجال الله، حين سأل عمّه الإمام الحسين(ع): "يا عم، أَوَ أنا من المقتولين؟" قال الحسين: "كيف ترى الموت؟" فقال القاسم: "أحلى من العسل". (بحار الأنوار، ج 45، ص 66).
هذا الرد لم يكن شعرًا، بل صدقٌ نابع من تربية بيت الإمامة، بيت علمه أن الموت في سبيل الحق حياةٌ خالدة. لقد خرج القاسم إلى ساحة القتال بثوبٍ مرقّع، وسيفٍ لا يكاد يحمله، لكنه قاتل بثبات حتى قُطّع جسده، فبكى الحسين(ع) وهو يحتضنه، كأنّما يحتضن قلبه.
2. علي الأكبر عليه السلام: صورة النبي، وروح التضحية
كان علي الأكبر أقرب الناس خَلقًا وخُلقًا ومنطقًا برسول الله صلى الله عليه وآله، وكان يجسّد في هيئته روح الرسالة النبوية. قال الحسين عليه السلام حين خرج عليٌّ للقتال: "اللهم اشهد، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خلقًا وخُلقًا ومنطقًا برسولك…"(بحار الأنوار، ج 45، ص 58).
قاتل علي الأكبر قتال الأبطال حتى قطّع بالسيوف والرماح، فكان شهيد القيم النبوية، والمثال الأعلى لفكرة أن العزّة لا تُقاس بالعُمر، بل بالفكر والإيمان.
فيما يلي بعض النماذج الأخرى من شباب كربلاء الذين استُشهدوا بين يدي الإمام الحسين عليه السلام:
1. عبد الله بن الحسن المجتبى عليه السلام (الطفل المجاهد)
كان غلامًا صغيرًا لم يبلغ الحلم، ومع ذلك اندفع إلى المعركة لما رأى عمّه الحسين(عليه السلام) محاطًا بالأعداء، ولم تمنعه صغر سنّه من الإقدام. وحين همّ بحر بن كعب أن يضرب الحسين، اندفع عبد الله وهو يقول: "يا بن الخبيثة، أتضرب عمّي؟!"
فضربه العدو على يده فقطعتها، فصاح الغلام حتى احتضنه الإمام الحسين(عليه السلام)، ودعا عليه فقال: "اللهم أمسك عليهم قطر السماء، وأمنعهم بركات الأرض اللهم ففرقه تفريقا واجعلهم طرائق قدا ولا ترض الولاة عنهم أبدا فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا".
وقُتل عبد الله وهو في حضن عمّه، ليرتقي شهيدًا في أحضان الطهر والنبوة.
2. عون بن عبد الله بن جعفر الطيار (ابن زينب عليها السلام)
هو ابن السيدة زينب الكبرى(سلام الله عليها)، وكان شابًا شجاعًا قد رُبّي في حضن أمّه العقيلة زينب، وأبيه عبد الله بن جعفر الذي قال للحسين لما أرسل ولديه عونًا ومحمدًا: "إن لم أستطع نصرتك بيدي، فقد نصرتك بأعزّ ما أملك".
قاتل عون قتال الأبطال حتى قُتل، وكان لمقتله وقع عظيم في قلب زينب، ولكنها لم تُظهر جزعًا، بل قالت: "الحمد لله الذي شرّفني بشهادة ولدي بين يدي ابن بنت رسول الله".
3. محمد بن عبد الله بن جعفر (أخو عون)
هو الأخ الأصغر لعون، وكان أيضًا من شباب بني هاشم الذين استبسلوا في كربلاء. قاتل حتى أثخن بالجراح وسقط شهيدًا.
وقد ذكرت الروايات أنّ زينب(عليها السلام) لم تخرج من خيمتها حين نُعي محمد وعون، إلا لتُهيّئ نفسها لمصيبة الحسين عليه السلام، وهذا يكشف عن عظمة تربية زينب لهذين الشابين.
4. عبد الله بن مسلم بن عقيل (من نسل مسلم الشهيد)
كان فتى من أبناء مسلم بن عقيل، وكان في ريعان شبابه. استأذن الحسين في القتال فقاتل بشجاعة حتى قُتل في ساحة الطف، مجسّدًا الوفاء لسيرة أبيه الشهيد.
5. محمد بن أبي سعيد بن عقيل (الطفل الشهيد)
هذا الطفل الصغير كان في السادسة أو السابعة من عمره، خرج يركض في المعركة مذعورًا، فرآه رجلٌ من العدو فضربه على رأسه بالسيف فشطره نصفين!
وقد ورد ذكره في زيارة الناحية المقدسة، مما يدل على أنه من الشهداء المخصوصين بالسلام من الإمام المعصوم.
6. عبد الرحمن بن عقيل
شاب من أبناء عقيل بن أبي طالب، خرج يوم الطف فحمل على القوم وقاتل قتال الأبطال وقُتل شهيدًا بعد أن أثخن فيهم.
7. جعفر بن عقيل
شقيق عبد الرحمن، وكان من الفرسان الشجعان، قاتل وأبلى بلاءً حسنًا حتى نال الشهادة.
8. عمر بن الحسن المجتبى عليه السلام
وهو من أبناء الإمام الحسن عليه السلام، ويبدو أنه لم يكن في سنٍ متقدمة، بل كان من الفتيان، وقُتل يوم عاشوراء دفاعًا عن خاله الحسين عليه السلام.
كيف بلغ هؤلاء الشباب هذه المرتبة من الشجاعة واليقين؟
الجواب الأعمق: بالتربية الإيمانية الواعية، وبصحبة الإمام الحسين عليه السلام.
فما من أحدٍ منهم إلا وقد رُبّي في مدرسة الإمامة: رأى في الحسين معناه، وفي القرآن منهجه، وفي علي عليه السلام مثال الرجولة والعقل، وفي فاطمة عليها السلام طهر الروح والعقيدة.
هذه التربية غرزت فيهم أن الموت لا يُرهب، بل يُحتفى به إذا كان في سبيل الحق. وقد قال أحدهم ـ عبد الله بن الحسن، الطفل الصغير ـ وهو يركض ليدافع عن عمّه الحسين: "والله لا أفارق عمّي!" (مقتل الخوارزمي، ج2، ص20).
كيف يقتدي شباب اليوم بشباب الطف؟
لعلّ السؤال الجوهري اليوم هو: كيف يمكن لشباب يعيشون في عالم السرعة والفتن والضغوط أن يستلهموا من شباب كربلاء؟
1. الهوية والإيمان أولًا: شباب كربلاء لم يضيعوا بوصلتهم، بل عرفوا أنّهم أبناء رسالة، وأن كيانهم لا يُحدّد بهوية مادية، بل برسالة ربانية. على شبابنا أن يُعيدوا وصلهم بالمبدأ، بالإمام، بالقرآن، ليكونوا مثلهم.
2. الولاء لا يساوم: شباب كربلاء باعوا أنفسهم للحسين، لا لأجل جاه أو منصب، بل لأنهم أدركوا أن الولاء للحق أغلى من الحياة. هذه الروحية يجب أن تُنقَل إلى الشباب اليوم: كن مع الحق حتى لو كنت وحدك.
3. القيم فوق الغرائز: القاسم وعلي الأكبر لم تلههم دنياهم، ولا شبابهم، بل استعلوا فوق لذائذ الدنيا. وفي زمن الماديات، على الشباب أن يتعلّموا كيف يُقدّموا قيم العفّة، والكرامة، والصدق على نزوات العصر.
4. بناء الذات لا يأتي بالصدفة: هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه في ليلةٍ وضحاها، بل بصحبة الصالحين، وتربيةٍ قرآنية، وبيئةٍ تقوّي الروح لا تضعفها. فليكن لكل شابٍ اليوم إمامه الذي يستلهم منه، وعليٌّ أكبره الذي يتطلع إليه، وقاسمٌ صغيره الذي يوقظ فيه معاني النقاء والإقدام.
شباب كربلاء، شباب كل العصور
إنّ كربلاء لا تملك زمناً، ولا يُحبَس شهداؤها في تقويمٍ قديم، بل هم نموذج أبديٌّ لكل من أراد أن يكون إنسانًا رساليًّا. شباب الطف هم إعلان دائم أنّ الكرامة لا عمر لها، وأنّ الشهامة لا تُقاس بعضلات البدن بل بعضلات الإيمان.
فيا شباب اليوم:
إن لم تكونوا مع الحسين بالسيف، فكونوا معه بالفكر والسلوك والولاء.
وإن لم تُدعوا إلى كربلاء الساحة، فاجعلوا من قلوبكم كربلاءَ الرسالة، ومن أخلاقكم عاشوراءَ السلوك.
ملاحظات مهمة عن شباب الطف:
• معظم هؤلاء نشأوا في بيوت العصمة أو قربها: أبناء الحسن، أبناء الحسين، أبناء زينب، أبناء عقيل… وهذا يؤكّد أثر البيئة الإيمانية والقدوة الصالحة في صناعة شبابٍ يحملون همّ الدين ويتجاوزون الشهوات.
• روح التضحية لم تكن مقتصرة على الكبار، بل كان لها صداها القوي في قلوب الصغار. وهذا ما يجب أن يعيه الشباب المعاصر: العظمة لا تُقاس بالسن، بل بالإيمان والموقف.
• ذكرتهم زيارة الناحية المقدسة بأسمائهم، وهذه ميزة عظيمة تعني أن الإمام المهدي عجل الله فرجه يرى تضحيتهم جزءًا لا يتجزأ من منظومة العدل والمقاومة التي أسسها الحسين عليه السلام.
خلاصة الكلام:
إنّ شباب كربلاء، بكلّ تنوّعهم، يجسّدون في مجموعهم أطيافًا متعددة من الوفاء والبصيرة، فمنهم من ترعرع في ظل الإمامة، ومنهم من نشأ على حبّ آل البيت، ومنهم من آمن بالحسين في اللحظة الأخيرة، وكلّهم وضعوا دماءهم على كفوف العزّة دون تردّد.
فلنُحيِ سيرهم في عقولنا وقلوبنا، ولننقلها إلى الجيل الجديد لا كمجرد تاريخ، بل كأُسوة حيّة، ونورٍ يهدي في ظلمات الماديات والانهيارات الأخلاقية.
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري